مساحة إعلانية
المقدمة
تُعدّ رواية «أساور مأرب» للروائي اليمني الغربي عمران واحدة من أبرز الأعمال السردية الحديثة التي تستلهم المأساة الإنسانية من قلب الحرب، وتعيد تقديمها في إطار فني يجمع بين الوثيقة والتخييل، بين الواقعي والسياسي، وبين الأنثوي والوطني.
في هذا النقد الأكاديمي نحاول تفكيك البنية الجمالية والفكرية للرواية من خلال محاورها الفنية المختلفة، بدءًا من الغلاف والعنوان، وصولًا إلى اللغة والبلاغة والرسائل الرمزية.
أولًا: الغلاف
جاء الغلاف بسيطًا في تكوينه البصري، داكن النبرة، يحمل طابعًا رمزيًا يتسق مع جو الرواية المفعم بالحرب والخراب والأنوثة الجريحة.
اللون الغالب هو الرمادي المائل إلى الترابي، في إشارة إلى ركام الحرب وغبار المدن اليمنية المنكوبة، فيما يوحي العنوان المطبوع بخط عربي أنيق برقة أنثوية تتقاطع مع صلابة الحديد في كلمة «أساور».
التصميم يحقق توازنًا دلاليًا بين الزينة والقيد، الجمال والألم، ما يعكس بذكاء روح الرواية التي تدور في فضاء الأنثى اليمنية المقهورة والمقاتلة في آنٍ واح
ثانيًا: العنوان
العنوان «أساور مأرب» يجمع بين مفردتين متضادتين في التلقي:
«الأساور» بما تحمله من رمزية أنثوية وزخرف وجمال.
و«مأرب» بما تستدعيه من صور الحرب والدمار والمقاومة.
هذا الازدواج اللغوي يُشكّل مفتاحًا تأويليًا للنص؛ إذ يحيل القارئ إلى رحلة البحث عن الحرية والجمال وسط القيد والمعاناة.
العنوان في ذاته استعارة كبرى لليمن كأنثى محاصرة بالحرب، تزيّن معصمها بالأصفاد بدل الذهب.
ثالثًا: التيمة الرئيسة
تدور التيمة المركزية حول الحرب بوصفها مسرحًا للمعاناة الأنثوية والإنسانية، غير أن الغربي عمران لا يقدّم الحرب كخلفية للأحداث فحسب، بل يجعلها كائنًا فاعلًا يغيّر مصائر البشر.
التيمة الأنثوية بارزة في شخصية «كنز» وما تمثله من أمومة وصمود ومقاومة في مواجهة قسوة الحرب وعنف الرجال.
أما التيمة الثانية فهي الذاكرة والكتابة؛ فالرواية تُبنى على تبادل الرسائل بين امرأتين، مما يجعل الكتابة فعلًا للمقاومة والتوثيق معًا، وكأنها وسيلة النجاة الوحيدة من محو الذات في زمن الحرب.
رابعًا: الشخصيات
يبرع الغربي عمران في بناء شخصياته وفق منهج واقعي نفسي، إذ يوزّع خصائصه بين الداخل والخارج.
شخصية «كنز» تمثل محور الرواية، وهي المرأة التي تهرب من الجحيم لتواجه جحيمًا آخر داخلها، بين الأمومة والخوف والاغتراب.
أما الشخصيات الثانوية (مثل «التي لم تعد سمينة»، و«الأشرم»، و«هيلين») فهي تؤدي أدوارًا رمزية ووظيفية تكشف عن طبقات الصراع النفسي والاجتماعي.
ورغم تعدد الأصوات، تبقى البطولة جماعية، تعكس الوجع اليمني العام في هيئة أنثى ممزقة بين الغياب والانتماء.
خامسًا: السرد والحوار
تُبنى الرواية على تعدد الأصوات (البوليفونية) عبر تبادل الرسائل بين «كنز» و«هيلين»، حيث تذوب الحدود بين الراوي والمروي له، وتتحول الكتابة إلى مرآة سردية تكشف عن وعي الأنثى بذاتها وبالعالم.
السرد يتناوب بين ضمير المتكلم والغائب، ما يمنح النص عمقًا نفسيًا ومرونة في الانتقال بين الداخل والخارج.
أما الحوار، فغالبًا ما يأتي مكثفًا ومحمّلًا بالرمز والإيحاء، ويُستخدم كوسيلة تفريغ وجداني أكثر من كونه أداة درامية تقليدية.
سادسًا: العقدة والحل
العقدة في الرواية ليست حدثًا واحدًا بل مجموعة من الأزمات المتداخلة: الخوف، الفقد، الخيانة، والبحث عن الهوية.
تتطور الأحداث من الانفجار الأول في مأرب إلى رحلة الهروب، وصولًا إلى التلاقي الرمزي بين النساء في ختام الرواية.
أما الحل، فيأتي على هيئة انفتاح لا إغلاق؛ فالنهاية لا تقدم خلاصًا نهائيًا بل تفتح الباب أمام التأمل في مصير الوطن والأنثى معًا.
بهذا يبتعد الكاتب عن الحلول الجاهزة ويستعيض عنها بوعي إنساني مفتوح يجعل الرواية تساؤلًا لا إجابة.
سابعًا: اللغة والبلاغة
لغة الرواية شاعرية مكثفة، تتكئ على المجاز والرمز دون أن تفقد تماسها مع الواقع.
يستخدم عمران لغة فصيحة مشحونة بالإيقاع الداخلي، مع إدماج لهجة يمنية في بعض الحوارات، مما يضفي على النص نكهة محلية أصيلة.
الصور البلاغية تولّد الدلالة من البسيط اليومي، كأن يصف البارود بأنه «رائحة الأمهات المذبوحات» أو الليل بأنه «صدفة مغلقة على وطنٍ يتنفس خوفًا».
اللغة هنا ليست وسيلة وصف فحسب، بل أداة مقاومة وتطهير.
ثامنًا: السلبيات والملاحظات النقدية
رغم القيمة الفنية العالية للرواية، يمكن تسجيل بعض الملاحظات الفنية:
بطء الإيقاع في بعض المقاطع الوسطى.
الميل إلى التكرار في بعض الرسائل المتبادلة مما قد يُضعف التركيز الدرامي.
الرمزية الكثيفة أحيانًا تجعل القارئ العادي يجد صعوبة في تتبع خيوط السرد المتشعبة.
بعض الأخطاء اللغوية :
نجد في الصفحة 17 ( لكنها المؤشرات فاجأتنا بانتظام نبضها )
صـ34
لاحظت ظلفة الباب ..( حنجور أبيض )
صـ48
تحكي لي لك كل شيء عنك
صـ109
كتمائم تبعد عنهم العين و الأمراض و لتحميهم من الحسد و العين
صـ 118
لم يكن من رصاص فقط و من روائح و دخا أيضا
صـ 216
أنتظر أن تخرج من الباب بقامتها الفارهة
لكن هذه الملاحظات لا تقلل من تفرد التجربة السردية وجرأتها في طرح أنثوي يمني يتجاوز الإقليمية إلى الإنسانية الشاملة.
الخاتمة
تؤكد رواية «أساور مأرب» أن الغربي عمران أحد الأصوات السردية الأكثر وعيًا بجدلية الحرب والكتابة في الأدب العربي المعاصر.
فهي ليست رواية عن الحرب فقط، بل عن الإنسان المقهور الذي يبحث عن معنى وسط الركام.
عمل يجمع بين الوثيقة والتجربة، بين الألم والجمال، ويستحق أن يُدرّس نموذجًا للسرد العربي في زمن العتمة، حيث تُصبح الكتابة فعل بقاء ورفض ومقاومة.
