مساحة إعلانية
كان موقع منبر التحرير الإلكتروني قد أشاد بالملف الرائع الذي نشرته مجلة الثقافة الجديدة مؤخرا احتفاء بالشاعر والباحث فتحي عبد السميع لفوزه بجائزة التفوق في الآداب لهذ العام 2023م وها نحن ننشر ما كتبه الشاعر والناقد والكاتب الصحفي مصطفى عبادة تحت عنوان "فتحي هو فتحي "
منبر التحرير
فتحي هو فتحي
بقلم : مصطفى عبادة
عن أي فتحي عبد السميع نكتب؟ كلّما أصدر كتاباً، أهم بالكتابة عنه وأتراجع، فتحي بالنسبة لي، لم يكن ولن يكون خبراً أو تقريراً، ربما هذا الأمر مهم لفتحي المبدع، الكاتب، وهو جدير ويستحق، لكن تلك مشكلتي مع من أحب، أؤجل الكتابة قدر ما أستطيع، وأحيانا أهملها، وأتأمل رحلة الرفاق بحب غالباً، وبإشفاق أكيد، أرى نضالهم وتمسكهم بمحبة الكتابة، على ما يعانون في واقعهم، وأؤجل الكتابة، يستحق الأصدقاء منا كتابة حقيقة كتابة تليق بروح الصداقة والصدق، تليق بروح الكفاح والجهر بالذات. وحين أرسل لي فتحي عبد السميع كتابه الأخير، الصادر عن دار أخبار اليوم، أرسله نسخة إلكترونية، تمهيداً للقائنا ولمنحى النسخة الورقية، وكعادتي أجلت الكتابة، وقلت لن أكتب إلّا عن فتحي الشاعر وهو كثير وجميل أولا، قبل أن أكتب عن كتبه، يستحق فتحي أن يعرف كيف أراه: أنا لا أرى فتحي إلا شاعرا صاغه الألم، وصقلته المحبة، وغرق في الواقع حتى صار هو بذاته واقعاً يمكننا تأمله، يحمل كل ما في واقعنا الجنوبي من جمال وأصالة ومحبة وإنكار ذات، وصار عمله في النيابة، ومعاينة الجثث، طريقه السريع إلى أن يشف ويتسامى، عرف الطبيعة الأولى، والمادة الخام للجسد البشري، المادة التي سرعان ما تزول، وكأن لم تكن، ولمس عن قرب والتصاق ملامح الروح الخالدة للبشرية فعبر عنها وتمثلها، بل صارت جزءا من سلوكه.على أن أهم ما رسخ في وجدان فتحي هو السخرية العميقة من كل شيء، السخرية التي لا تقلل من قيمة شيء، وإنما التي تحيله إلى استعارة واقعية مشوهة من عالم الروح والمُثُل.كل ديوان لفتحي، أو كتاب، هو بالنسبة لي مناسبة للتأمل والفرح، والصمت الطويل، أقرأه فأراني وأرى ماضيّ وأهلي وذكرياتي، وأشعر بالعجب دائماً والفخر، وبالغيرة أحياناً، أعتبر فتحي ذلك التعبير الحاد، المؤلم، عن الجنوب الذي أنجبنا معاً، الشعر بالنسبة له ليس لغة ولا عالما مصنوعاً أو خيالاً، إنما جزء من روحه، جزء من رقيه، وتفانيه، كل ديوان لفتحي معركة قاسية وشرسة ضد القبح والزيف، ضد الخوف والمذلة والضعف، وعدم الثقة بالنفس. الغريب، والذي يثير إعجابي دائماً، أن فتحي وُلد شاعراً متخلِّصاً من كل تراث الشعراء الجنوبيين: أمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، وعبد الرحيم منصور، وهو المرض الذي عاناه أغلب شعراء الوجه القبلي، فتحي لم يكن كذلك، فتحي كان فتحي منذ البداية، وظل هو حتى أمس الذي أرسل لي فيه كتابه الأخير، حتى أمس الذي حاز فيه جائزة التفوق، في لحظة استثنائية، امتلك فيها الواقع منطقا، لا يملكه في العادة، وصار فتحي من يتم تقليده، لا من يُقلِّد.
أعرف يا فتحي، وتعرف، أنها ظروف عصر وأيام وسياسات ووقت، ليس من ضمن اهتماماته فرز الجيِّد أو تمييز المميز، وقت يعدو فيه الجميع على طريق واحد، ومستوى واحد. والحق أن الأمر ليس كذلك، وإنما سيأتي اليوم ويبقى الجادون المخلصون، الذين لم يتعاملوا مع الأدب والشعر وثقافة مصر وروحها، على أنها وجاهة اجتماعية، أو مركب للرفاه معيشة وشعرا، فلم يدخلوا حظيرة أحد أو يتمولوا من أحد. البطولة الحقيقية فما جرى يا فتحي، في الرحلة كلها، وفي السعي كله، أنك صرت مبدعا في ظل الوظيفة ومعها، لم تتفرغ، ولم تعش على أهلك دور المبدع، أبدعت وأنت تمارس واجبك، وأنت أب ومواطن عادى، غير مُتبنى من جهة أو أحد، أخطأتك، لحسن حظ الإبداع. المنح والسفريات، أبدعت وأنت تروح وتجئ بين قنا والقاهرة في قطار الغلابة والكادحين، أبدعت وسط مجموعة مقاتلة مثلك: محمود الأزهري، وأحمد جويلي، وعبد الجواد خفاجي، فصرت واحدا من مجموعة مخلصة تشكل وجه الإبداع في الجنوب مع عزت الطيري، وإسحاق روحي الفرشوطي، ونبيل بقطر، وأشرف البولاقى، أنتم المثل الأوضح على جمر الإيمان، ومرارة العطاء.
