مساحة إعلانية
الأسبوع الماضي قمت بتسجيل حلقة بالفضائية المصرية في التليفزيون المصري ببرنامج عالم الدراما . وكانت الحلقة عن مسلسل "حديث الصباح والمساء" لأديب نوبل نجيب محفوظ وسيناريو وحوار محسن زايد -رحمهما الله- وإن كانت البطولة لليلي علوي إلا أنها بطولة جماعية فالمسلسل يضم 134 ممثلا وممثلة أغلبهم حاليا نجوم مصر , فالمسلسل انتج من ربع قرن .
من لم يشاهد هذا المسلسل فاته الكثير والكثير, ومن شاهده مرة من قبل وشاهده مرة أخري سيكتشف كأنه يراه لأول مرة , وحتي لو تكررت المشاهدة عشر مرات مثلي سيري المسلسل بصورة جديدة في كل مرة , فالتفاصيل كثيرة جدا في هذا العمل المصري الخالص, وعبقريته في مصريته ومحليته , فلن يستطيع أحد أن يتفوه بكلمة واحدة بأن يقول : "ما نسمعه في السنوات الأخيرة التي اكتشفنا فيها مسلسلات مصنوعة عبارة عن كوبي بيست من أفلام ومسلسلات ليست من إبداعنا".
ليلي علوي تجسد شخصية هدي هانم , التى ولدت وعاشت في فمها عشر ملاعق ذهب ولا تعرف من الطبقات الأخري سوي الخدم والحشم , وفجأة يدخل حياتها عطا المراكيبي , وهو صفة حقيقية ألصقت بالاسم فهو بالفعل " جزمجي" أي مراكيبي وهي ابنة الحسب والنسب , فواجهت المجتمع وحاربت العائلة حتي تزوجته , وقد جسد دوره الفنان الراحل أحمد خليل. منذ أول مشهد لليلي علوي ودعني ألقبها بهدي كما جاء في المسلسل .. أول مشهد لهدي هانم ستري أنها المرأة النموذج التي يتمناها أي رجل علي ظهر البسيطة دون تكلف ودون نقيصة واحدة فيها , فمن يتعامل معها يعاملها وكأنها متكبرة بينما هي معجونة بالتواضع , ولكن بكرامة بلا حدود ودون أن يصل هذا التواضع لمن يتعامل معها .
تهتم بفقراء عزبتها وتقوم بتوزيع الأحذية عليهم بنفسها, وحين صنع لها عطا المراكيبي حذاء هدية, لم تنهره, بل فرحت به وكأنه حذاء جاء لها خصيصا من باريس .. حين أحبته لم ينتقص منها شيء ولم تزد في تعاملاتها مع الآخرين فكانت هدي هانم نفسها .
حين تزوجت عطا المراكيبي الذي كان أقصي ما يحلم به أن يعمل معها تحولت إلي امرأة عاشقة ، تحب زوجها حبا بلا حدود . في غرفتهما تتحول إلي القطة التي تمارس كل إغراء المرأة في حضن زوجها بدلع الأنثي التي لا يستطيع رجل الوقوف أمام اسلحتها .
حين تصبح أما فهي الأم المثالية التي يكفي أن يكون عقابها لأبنيها إذا ارتكبا خطأ أن تخاصمهما أسبوعا لدرجة الترجي من ابنيها ان تكتفي بيومين لا يحدثاها , لكنها تصمم علي العقاب أسبوع لا يكلمانها . حين رأت ابنيها يظنان الخادمة ملك لهما , لأنها خادمة , تعطيهما درسا عمليا في الحفاظ علي بنات الناس فتقول لهما:" من يحبها أكثر كي أزوجها له ؟" فتقع المفاجأة عليهما كالصاعقة ويطلبا منها عدم اخبار والدهما , فتقول لهما تخافا من والدكما ولا تخافا من الله وانتما تتلاعبان ببنت هي أمانة في بيتنا .
حين يحدث خلاف وحيد مع زوجها لأنها أعجبت بطموح رجل آخر, عاملها معاملة سيئة , فيأمرها أن تأتي له بليمون علي السفرة فتنادي الدادة فيقول لها : أنا مش متجوز الدادة , فبهدوء تقوم وتحضر له ما طلب وتترك العاصفة حتي تمر , وحين يريد مغادرة المنزل للعزبة تسأله إلي أين ذاهب فيرد عليها بطريقة سيئة فبهدوء والحزن في عينيها تقول له : أنت بتعاملني معاملة مش بسطاني .. أنا غلطت في إيه؟ فيصارحها إنها وهي تفخر برجل غيره وصلته الرسالة إنها تعايره لأنه لم يأخذ الباشوية.
ينقلب المشهد رأسا علي عقب بمجرد أن فهمت أنه مجروح من داخله , فتتحول إلي قطة تتمسح فيه لتقنعه من قلبها وليس تمثيلا بالفعل أنه لا يوجد رجل علي وجه الأرض يملأ عينيها سواه , وبدلعها وتمسحها بحب حقيقي يقوم بإلغاء سفره ... فلا تكتفي بذلك وتقوم بإعداد سهره له وتجلسه كالسلطان وتعامله كأنها جاريته وهو سيدها لتمسح تماما أي أثر للجرح الذي سببته له دون قصد ولسوء فهمه .
حين تمر البلد بالقلاقل وتقوم ثورة عرابي , تظهر وطنيتها وحبها للبلد , لتعطي درسا لابنها في الوطنية وحب الوطن , وتقف فى وجه زوجها وابنها لأن من تدافع عنه هذه المرة وطن وليس بشر.
حين يصاب عطا بالشلل تتحول إلي خادمة وراعيه وأم وأخت بطاعة عمياء وتحاول أن تحقق له أي أمنية يتمناها
حين يموت ليلة زفاف ابنيهما تكون أول من تعرف, فعينها لم تنزل من عليه منذ دخوله علي الكرسي المتحرك لحضور الفرح , لتظهر المرأة القوية ذات الشخصية الفولاذية , فتكتم حزنها داخلها حتي يتم الزفاف , ويظن المعازيم إنها دموع الفرح وليست دموع الفقد لأعز وأحب الناس لها , لتظل مع جثته للصباح تتذكر كل شاردة ووارده منذ أول مرة رأته فيها حتي آخر يوم له معها قبل وفاته.
حين يرحل الحبيب والزوج والعشيق والأخ والصديق والأب الذين تجمعوا في الرجل الذي اختارته , تتحول إلي قائد للأسرة وكأنه موجودا ولم يغادرها وتقود السفينه بحكمة وبراعة , بل وتستشهد بمواقفه ومقولاته.
حين يحاول داوود باشا - خالد النبوي- الطبيب الدارس في فرنسا والذي حصل علي الباشوية أن يتقرب منها مقللا من زوجها بجملة " لم أكن اتخيل أنك تحزني عليه لهذه الدرجة !!! تتحول إلي القطة الشرسة التي تفترس من يهينها لتعطيه درسا في الاخلاق والوفاء والحب ويخرج من بيتها شبه مطرودا , فقد كان يظن من تتزوج مراكيبي سوف تفتح قلبها علي مصراعيه للطبيب المتعلم في فرنسا والحاصل علي البشوية.
حياتها تسير في سياقها فهي القائد الذي لم يستطع ابن من ابنائها أن يرفع عينيه فيها. تجعل زوجها في نظر ابنيه أيقونه لاتمس من قريب أو بعيد .
حين تري ابنها يعاقب فلاحا بشكل غير إنساني ويربطه في النخلة ويجلده, تثور وتصمم علي صرف الفلاح حتي لو كان سارقا, وتقول له : وهل سألت وعرفت لماذا سرق ؟ لتعطي درسا لابنها في الرحمة والعدل وعدم كسر رجل أمام ابنائه مهما فعل ’ وأن العز الذي يحيون فيه من تعب وشقاء هذا الفلاح الذي يعامله بقسوة.
حين يقول لها ابنها الأصغر أن زوجته اتجننت لأنها تريد بدلة رقص تعطيه درسا في أن يحيا حياته مع زوجته لأنهما في أوج شبابهما , وتطالبه ان يفرح بزوجته بحب ودلع وليس عيبا أن ترقص له زوجته وتقول له : إنها ستفعل ذلك من أجل سعادتك وسعادتها.
حين تري ابنها الكبير يعامل زوجته بكراهية ويصفها بالنكدية تتدخل وتعطيه درسا في معاملة المرأة , ولأنها تعرف أن والده قدوته تقول له : أنت ورثت التجارة والشطارة من أبوك , لكن لم ترث منه كيف يعامل المرأة وتسعي بكل قوة حتي تحول نظرة ابنها لزوجته من زوجه نكديه إلي زوجه متعايشه معه بحب .
لقد قلت للمذيعة التي تحاورني : إن هذه المسلسل يحتاج إلي ساعات من التحليل وأقول لكم أن هذا المسلسل لازال يحيا في وجدان المصريين بعد ربع قرن . لم اتحدث عن المسلسل ككل لأنه يحتاج إلي عشرات المقالات, ولكن المبهر في هذا المسلسل هي "هدي هانم" التي جسدت المرأة كما يجب أن تكون .. امرأة يقول الرجل بعلو صوته ليت كل النساء هدي هانم , والمرأة نفسها ستقول ياليتني هدي هانم ,وأقول للجميع , ليتكن يانساء القرن الحادي والعشرين هدي هانم
المسلسل يعالج الفترة من 1805 حتي 1919 أي منذ عهد محمد علي حتي ثورة سعد زغلول , وإن كان نجيب محفوظ في الرواية عالج الأحداث حتي 1981 أي حتي عصر السادات , ولكن محسن زايد السينارست كان يأمل تصوير جزء ثاني يعالج الفترة من 1919 حتي 1981 ولكن للأسف لم يتم انجازه ليظل حديث الصباح والمساء جزء واحد من 28 حلقه .