مساحة إعلانية
بعد قيامها الليل وصلاتها للفجر، بدأت الست (هداية)، رغم ما يبدو عليها من بعض علامات التعب، تحضير بعض الأشياء وتجميعها في حقيبة كبيرة، وفي أثناء انغماسها في ذلك سمعت صوت ابنتها “صباح الخير يا أمي، برضوا مصممة تروحي مشوار كل شهر؟!، ما بلاش المرة دي.. شكلك تعبانة”، نظرت إليها بوجه دبلان، وعيون دامعة، وقالت: “أخوكِ خالد واحشني، وباستني الزيارة دي من الشهر للشهر”. حملت الحقيبة في صمت وغادرت، مضت في طريقها، حتي استقلت سيارة الأجرة المتجهة إلي حيث تريد، فطريقها أصبح صديقها باتت تحفظ جميع المطبات أكثر من السائق نفسه، وفي بعض الأحيان كانت تذكِّر السائق بها قبل أن يصل إليها،، كانت تأخذها الأفكار وتطوف بها هنا وهناك وهي ذاهبة إلي وجهتها؛ فترتسم أحيانا بسمة فرح علي خديها، ويحترق نفس الخد تارة أخري بدمعة شوق حارقة، انتبهت لصوت السائق قائلا: “منطقة التجنيد يا خالتي أم خالد”، هبط هو أولا وأخذ منها الحقيبة، ثم أخذ بيدها حتي نزلت من السيارة، قال لها: “هاحجز لك مكانك.. وهاعدي عليكِ آخدك وأنا راجع.. تكوني خلصتِ زيارتك”.
شكرته ودعت له “، أخذت حقيبتها واتجهت إلي مكان انتظار الجنود للعربات التي يستقلونها للذهاب إلي وحداتهم، وجدت شابا جالسا علي دكة الانتظار يقلِّب في تليفونه المحمول.
قالت له: “صباح الخير يا ابني.. خدني أقعد جنبك”
قال لها: “اتفضلي يا خالة.. هو أنتِ جاية هنا ليه؟!”
قالت: “أنا ابني زيك كدا.. وباجي هنا كل أول شهر.. أجيب له زيارة وأبعتها له مع حد من زملاته”.
قال: “ليه يا خاله.. هو ما بينزلش أجازات؟”
قالت: “ما نزلش بقي له كتير قوي، ووحشني قوي، ينوبك ثواب يا ابني تكتب لي جواب ابعتهوله مع الزيارة”.
قال: “حاضر يا خالة”. وأخرج من حقيبته كراسة وقلم، وقال لها: عايزة تكتبي له إيه؟.
قالت: إزيك يا خالد.. عامل إيه يا حبيبي هناك، كدا برضك هانت عليك أمك كل المدة دي لا تجيها ولا تبعت لها حتي جواب؟، حتي الحلم ما بقيتش بتيجي تكحل عيني برؤياك، وتحضني وتقول هتاخدني معاك، بس أنا مش زعلانة منك، وقلبي ما بيطاوعنيش أغيب عنك وأعدي زيارة واحدة ليك، وكل مرة أخلي واحد من زملاتك يكتب لك جواب اطمنك فيه علي أحوالنا، أسكت يا ولا مش أختك مي ولدت أول الشهر العربي، وجابت واد زي فلقة القمر، وفي خده غمازة زي غمازتك تمام، وعيونه لون خضار قلبك، راحت سمته خالد علي اسمك، بس وغلاوتك عندي أنا ما قلت لها كدا، هي اللي عايزة تفضل تنادي باسمك، بتحبك قوي البت مي دي، بس عارف؟ كل ما تنطق اسم ولدها قلبي بيرقص، وبافتكرك، بافتكرك إيه بس، هو أنا بانساك!.. وباشوفك وأنت بتتنطط حواليَّا زي العيال الصغيرين علشان أسيب اللي في إيدي وأقعد علشان تحط راسك علي رجلي، وتحكي لي ع اللي حصل وياك أنت وأصحابك في الجيش، أيوه صحيح مش عايزاك تقلق، مصروف الشهر بتاعك اللي وصيتني في آخر زيارة ليك أبعته للأيتام بدل ما ابعتهولك، بيوصل لهم، وكلهم بيدعوا لك، زي ما يكون قلبك كان حاسس يا قلب أمك، (ارتعش القلم في يد الجندي وبكت عيناه)، واد يا خالد.. إنت وحشتني قوي يا ضي عيني، ونفسي أغمض عيني ما أفتحهاش، الدنيا من غيرك يا ولدي صبحت ما تسواش”.
وانهمرت في بكاء مرير، بكي معها الجندي، ولم يستطع الحديث أو السؤال، لكنها بادرته قائلة: خالد استشهد من خمس سنين في تفجير (بير العبد)، راح لهم حتة واحدة ورجع تلات حتت متجمعين في كفن لاففهم علم، من وقتها وأنا باجي كل شهر بالزيارة، أزور زمايله اللي باشوف ملامحه في وشوشهم، وأشم ريحته في ريحتهم، وأقعد مكان ما كان بيقعد، وأدي الزيارة لصاحب نصيبها، وأنت صاحب نصيبها المرة دي يا ابني، فانحني وقبل رأسها، ثم انحني أكثر كي يقبل يدها وهو يرتعد من شدة البكاء، قائلا: “كلنا ابنك يامه، كلنا ابنك”. فقالت له وهي تحنو عليه وتمس شعر رأسه بيدها الأخرى: “ وأمانة عليك سلم لي علي رمل الصحرا المتحني من دم ضنايا ونور عيني، وأمانه عليك يا ابني، تاخد الجواب دا وأنت معدي علي (بير العبد)، تطيَّره من العربية، هو عارف مكان دمه وهيروح له.