مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

ياسر مخلوف الجعفري يكتب : الأراجوز

2025-10-30 13:16:42 - 
ياسر مخلوف الجعفري يكتب : الأراجوز
ياسر مخلوف الجعفري

قرب قرب أنا الاراجوز .. جرب جرب فرقع لوز
أنا لفيت الدنيا بحالها .. متزحلق على قشرة موز
الاراجوز ده يابا بحبه... لما يلعب كده بايديه 
الظالم يضربه ويسبه ... والتعلب يربط رجليه 
ويطلع حمص من عبه .. ورد عليه مية فل عليه
قرب قرب على الاراجوز 
الاراجوز ده يابا حبيبى .. اشطر من استاذى مغازى
لهجته مصرى وشامى وليبى.. وسودانى ومغربى وحجازى
ورد عليه مية فل عليه.. قرب قرب على الاراجوز
لم يكن الأراجوز مجرد لعبة بهدف التسلية بل كان فلسفة شعب بسيط مغلوب وفنا مصريا خالصا وجزء من التراث الشعبى الذى كان يهدف إلى زيادة الوعى ومحاربة الظلم والسخرية من السلوكيات الخاطئة من خلال اسكتشاته المضحكة وإسقاطاته البديعة وكلماته المليئة بالتورية والسخرية وأشخاصه الرمزية .. ولذلك فليس عجيبا أن يكون مكانه الطبيعى أكثر الأماكن فقرا وجهلا وأمية فانتشر فى القرى والأرياف والأماكن الشعبية ونشط فيها فى التجمعات الكبيرة حيث الأفراح والموالد فكان أشبه بمسرح الغلابة الذى لايحتاج لأى إمكانيات سوى أدواته البسيطة .. سخر من السلطة وقراراتها الظالمة أو الساذجة سخر من الواقع وقسوته سخر من السلوكيات السيئة وكل ذلك من خلال قصص قصيرة وكلمات وحوارات بسيطة ضاحكة تخفى أكثر مما تظهر واستخدامه لشخصيات رمزية كالعمدة وشيخ الغفر والزوجة والأب حتى أنه كان أحيانا يفتح الحوار مع الجمهور يتلقى اسئلتهم الساخرة فيكون رده أكثر سخرية فى قالب كوميدى ينتزع الضحكة العفوية من القلوب البسيطة والناس المهمومة فالتف حوله واستمتع به الكبار قبل الصغار وتحول الأراجوز فى الوجدان الشعبى من مجرد لعبه لفيلسوف وسياسى وممثل كوميدى وناقد وثائر وبطل شعبى أيضا...
عندما عاد الفنان العالمى عمر الشريف إلى مصر بعد غياب سنوات طويلة تاركا خلفه رصيدا فنيا ضخما وحقق فيها نجوميته العالمية لم يعود ليمثل دور أراجوز بل قدم من خلال المخرج هانى لاشين فلسفة ورسالة ورؤية وواقع ممتد لسنوات طويلة بدأها باسكتش جميل ...
أراجوز وشجيع والدنيا ميدان 
فارس حارس واقف ددبان
وإذا بان لى الشر نبان 
وإذا بان أحمى الغلبانة والغلبان 
قدم عمر الشريف فى فيلم الأراجوز شخصية فنان الأراجوز الذى مثل ضمير القرية فهو رجل بسيط تربى على قيم القرية الجميلة وعاداتها وتقاليدها المتوارثة .. كان ينتقد السلبيات ويواجه الظلم ولا ينطق إلا بالحق رغم أنه كان وحيدا بسيطا لم يمنعه فقره من الاعتزاز بنفسه والاعتداد بكرامته فكان صوت القرية وضميرها .. وكان على الصعيد الآخر رجل الأعمال الذى كان يأخذ الأراضى من الفلاحين ويريد تحويل القرية إلى مشروع سياحى مستغلا فقرهم ورغبتهم فى السفر أو البحث عن عمل فى المدن يكون أكثر ربحا من الفلاحة .. رجل الأعمال الذى اختار القرية بالذات وكأنها رمزية لعودة الإقطاع من جديد فى صورة مختلفة وربما اختار الكاتب والمخرج فكرة عمل مشروع سياحى بالذات ليس كرمزية للإستثمار والرأسمالية أو الاقطاعيين الجدد فقط ولكنها رمزية لغزو ثقافى للقرية من شأنه التغريب والتغيير الجذرى للقيم القروية والتقاليد المجتمعة التى توارثتها القرية جيلا بعد جيل فحاول مواجهة ذلك وتوعية الناس وكان وحيدا ليس معه سوى إبنه بهلول ( لاحظ رمزية الإسم) الذى حاول تربيته على المبادئ التى تربى عليها ليكون مثله ولكن الإبن يتخذ الطريق الآخر ويذهب للعمل مع رجل الأعمال بحثاً عن المال والثراء ومارس فى طريق ذلك كل انواع الانتهازية والوصولية حتى أنه تزوج ابنته ليكتشف الأراجوز الذى كان يريد إصلاح مجتمع بالكامل وتربيته لم يستطيع إصلاح وتربية إبنه كما يريد وكأنها رمزية أخرى لاتساع الفجوة بين الأجيال لاختلاف ظروف الحياة وتغيراتها وربما إسقاطا آخر على أن فشل الأبناء ليس بالضرورة يتحمله الآباء وحدهم فتغيرات الحياة وايدلوجية النظام من أسباب انحراف أجيال كاملة بعيدا عن خطى آبائهم التى تربوا عليها .. ويستمر الأراجوز فى أداء رسالته وتوعية الناس والمطالبة بحقوقهم حتى تقتل زوجته على يد رجل الأعمال بطريق الخطأ وبعد وضعها لمولود جديد ويمسك الأراجوز بمولوده الجديد وكأنه يمسك بالأمل فالمولود رمزية للبقاء والاستمرار والولادة ترمز دائما لحياة جديدة وربما كان مقصودا من صناع الفيلم أن تكون الزوجة زوجة ثانية وليست ام الإبن الأول بهلول والأم ترمز دائما للأرض الطيبة الخصبة وكأن المقصود هنا أنه ليست بالضرورة أن يكون الأمل والبداية الجديدة على نفس الأرض فقد يطلع الأمل وتخرج البداية من أرض أخرى وتنشأ فى بيئة مختلفة المهم أن يبقى الأمل وأن تكون هناك بداية أخرى.. يمسك الأراجوز بمولوده الجديد رغم موت زوجته ينظر إليه فى عمق وكأنه يقول أنه لن يربى بهلولا جديدا وأنه سيحاول إقصاء أخطاء الماضى وتصحيح المستقبل .. قد تكون القصة نمطية ومتكررة ولكن إستخدام الرمزية العبقرية للأراجوز التى جسدها عمر الشريف ببراعة تليق بفنان عالمى أضافت للقصة بعدا مختلفا وعمقا جديدا وجعلت للعمل بعدا فلسفيا ممزوج بالفلكلور والخيال الشعبى الذى تميز به التراث الشعبى المصرى الثرى والغنى والمتفرد ..
وأخيرا لا أعلم إن كان صناع الفيلم أرادوا ذلك أم لا ولكن تلك رؤيتى..

مساحة إعلانية