مساحة إعلانية
مجموعة من الصبية ممن هم دون سن البلوغ بقليل، وقد تجمعوا ليلعبوا لعبة(الزخمة) الشعبية. فهناك (وتد) بحبله تم دقه في مدخل درب يفضي إلى الجبـل، حـيث يتقاطع الدرب مع الطـريق الرئيسي للقـرية (تحت البلد) ، يسرع كل واحد من الصبية بوضع (تلفيحة) أو شاله الذي يلقيه على كتفيه حول الوتد. ينبري أحد الصبية ليعلن على مسامع الآخرين الشروط التي يعرفونها للعبة: المربوط ما يمسكش بايده.. يلمس برجله بس .. اتفقنا.. يرد الجميع في مرح : اتفقنا. يكمل الصبي: ما فيش ضرب في الراس ولا الوش .. ماشي؟ يرد الجميع( ماشي). يعود الصبي ليؤكد : اللي يغلط يتربط مكان المربوط . خلاص؟؟ يرد الجميع : خلاص .
أحد الصبية بتلفت حوله هاتفا: امال اسماعين ولد العمدة وين ؟ هرب بعد ماجات عليه القرعه إياك ؟!. يبرز (إسماعيل) من بين الصبية المتزاحمين. وهو يربط ذيل ثوبه في وسطه حتى لا يعوقه عن الحركة، وهو يقول متحديا: الرجالة ولد العمد ما تهربش .!!. يمسك بطرف الحبل المربوط بالوتد هاتفا: دارت يا وِلْد. فجأة يسمع صوت صهيل يقترب، يتوقف جميع الصبية عن الحركة ويسقط من إسماعيل الحبل وقد بدا عليه الفزع، يبزغ من تحت غبار الطريق أحـد أفراد الشرطة؛ وقد فرش على رأسه منديلا محلاويا ملونا؛ تحت طربوشه الأحمر؛ يركب حصانا أسود اللون، والخفراء (ثابت) و(عزيز) يجريان خلفه. الصبيان وقد تسمروا في الأرض خوفا :
- عتريس التليس شغل الغراق يا ولد !! طير يا واد ..
ينطلق الصبية جريا في الدرب المؤدي إلى الجبل، يلحق بهم بعض الشباب الأكبر سنا، يبدو وكأن الدرب قد تحول إلى ساحة سباق يجري به عدد من الشباب والصبية في هلع. ترتفع أصوات التحذير وطلب الهرب؛ مختلط بصراخ النساء ونباح الكلاب. الشاويش (عتريس) يوقف الحصـان بقوة، فيدور به في اتجاهات متعدده ثم يستقر على نفس الاتجاه، يزفر الحصان ويصهل قبـل أن يتوقف مستسلما. يهتف (عتريس) بالخفير: هات الناس دي يا غفير!!.
يقبل الشيخ (محمد اسماعيل) مسرعا يجمع عباءته إلى صدره؛ و خلفه الخفير (أبوزيد) والشيخ (معتوق)، وبعض كبار السن. يبتسم (الشيخ محمد) قلقا مرحبا: يا أهلا وسهلا.. وأنا ع نقول أتاري البلد نورت!! .. مرحبه يا حضرة البلكامين(عتريس). طب مش تدونا خبر نستناكم ؟!!(عتريس) منتفخا بالإطراء متعاظما، يدور بالحصان حول نفسه موزعا حديثه على النساء والأطفال وكبار السن من تجمعوا بالساحة. يرفع يده بالتحية : الحكومة زي البحر يا عمدة .. ما ع تديش خبر. يتحرك (عتريس) بحصانه وقد شكل الأهالي شبه حلقة حوله وحصانه، بينما انضم (ثابت) و(عزيز) إلي العمدة و(أبو زيد) بعد أن تراخيا عن اللحاق بالشباب. من على ظهر حصانه كأحد الفاتحين يلقى بشروطه:
- اسمع يا شيخ محمد ..عاوزين شوية عيال .. من هنا يروحوا لغاية النواورة علشان الجسر انقطع على البلد .. والميه غرقت البيوت.. والباشا المأمور.. سامح بيه القرنفلي.. ضرب اشارة لنقطة (نجوع المعادي) يلم الناس عشان يسدوا القطع.. وفرد عليكم 15 فرد و15 مقطف وسبع طواري .
العمدة واجما وإلى جواره الشيخ (أحمد معتوق) مبتسما: ولا تشغل بالك يا حضرة الصول. (نصر الجمال) في ملابس العمل وقد وضع يديه في وسطه مبديا الدهشة:
- يا سلام ؟ طب ما احنا انقطع علينا البحر..!! ولا حد سأل في ميتنا ..؟!! اشمعنى قاو
النواوره يعني ؟!!
الجميع يشوحون بأيديهم مستنكرين تدخل (نصر)، ترتفع الأصوات المعارضة طالبة منه الخرس.
ما هي إلا ساعة بعد أن شرب عتريس القهوة أكثر من مرة، حتى كان (الشيخ عزيز) يبلغ (العمدة) أن الفردة المطلوبة جاهزه وكله تمام. خرج الشاويش (عتريس) ليعتلي حصانه كالقائد الفاتح يسير في مقدمة موكب الأسرى، يقطع طريق (تحت البلد) خارجا إلى الكوبري. كان وجه الشاويش(عتريس) بطربوشه الذي ثبت تحته المنديل المـحلاوي؛ ينضح عرقا، وشــواربه المجدولة تعطي ملامحه الطفلية شكلا مضحـــكا، يسير مهتزا باضطراد فوق حصانه، محاولا إبداء التعاظم. مجموعة من الشباب ربطت اليد اليمنى لكل منهم بحبل واحد طويل؛ ربط طرفه الأول في سرج حصان الشاويش (عتريس). أهالي القرية يشكلون تجمعا صامتا خلف موكب الأسرى، يشق الموكب الطريق في صمت، عابرا [الكوبري] الخشبي، محدثا إيقاعا بطيئا رتيبا. طابور الشباب يمشي في انكسار، والحضـور من أهالي القرية يتابعون المشهد والغيظ والقهـر في عيون النساء والصغار، الرجال خلف طابور الشباب يسيرون في صمت وخجل. الشيخ (محمد) والشيخ (معتوق) ومجموعة من كبار السن وخلفهم الخفراء. يتوقفون عند نهاية الكوبري مودعين، بينما يلتف الموكب إلى اليسار على (طريق المعاهدة) جنوبا. خلف الحصان وخلفهم سحابة من التراب الحزين..
يبدأ الناس في التفرق صامتين، عندها يمبل الخفير (أبو زيد) على أذن الشيخ عزيز هامسا مشيرا إلى الموكب الذي ظلله التراب: يعني ده حرام.. والا حلال يا شيخ عزيز ؟. يثبت (عزيز) بندقيته على كتفه قبل أن يرد بصوت مسموع: هوه انا الشيخ (معتوق) ع تسألني عن الحرام والحلال ؟! الشيـخ (معتوق) قدامك أهوه روح اسعله. ايه رأيك يا شيخ معتوق؟. اقترب الشيخ (معتوق) من الخفراء موضحا رأيه :
= ربنا سبحانه وتعالى قال (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وهو جل جلاله إللي نظم الكون ..والذي شاء أن يولي الحاكمين أمر المحكومين .. وبعدين الاحترام واجب يا شيخ
(عزيز) . رد (عزيز) في خبث مبتسما: ما قلناش حاجه يا شريف (معتوق),, بس لما يكون
الاحترام م الطرفين!! ...
أبدى الشيخ (معتوق) اندهاشه لموقف شيخ الخفراء؛ رافعا صوته ليسمعه العمدة:
- الله الله الله ..!! إنت مع الأهالي.. والا مع الحكومة يا شيخ الغفر؟
- أنا مع الحق يا شريف .رد (عزيزحسين):
- افهم يا وليدي الله يهديك ..!! الوقوف يكون من الواجب عند قدوم ولي الأمر أو أحد اتباعه أو مرورهم على مجلس المسلمين. !! العمد من أولياء الأمر.. والعساكر من أولياء الأمر.. حتى الغفر .. حتى الحصان شغل عتريس التليس ..
ينفجر (نصر الجمال) ضاحكا ساخرا : يعني لو عدى علينا حصان عتريس التليس واجب نوقف له يا شريف ؟!! انفجر الضحك من الجميع؛ مما أحرج الشيخ (معتوق) فراح يتردد ينهم مؤكدا: أي والله واجب ..ع تضحكوا؟! طب انتو والا ناس البندر ف إسيوط ؟!! ألا يقف ناس المديرية المتعلمون بأسيوط لحمار(النميس)عمدة أسيوط؟ حتى ولو لم يكن العمدة راكبه..؟
يسود الصمت بين الجميع لمعرفتهم أن هذا حقيقي، يكمل (الشريف معتوق): طب اتقوا ربنا. (أبوزيد) يصطنع التأثر هازلا:
- استغفر الله العظيم .. يخرب بيت الشيطان.. الواحد كان هيكفر . ينفجر الضحك مرة أخرى ، ويعود الموكب يتصدره العمدة إلى البلد.