مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

شحاته زكريا يكتب :الهوية في مواجهة العولمة الرقمية.. هل ننجو؟

2025-10-06 08:03:33 - 
شحاته زكريا يكتب :الهوية في مواجهة العولمة الرقمية.. هل ننجو؟
شحاتة زكريا
منبر

لم تعد العولمة اليوم تلك الفكرة الاقتصادية التي تتحدث عن انفتاح الأسواق وتدفق السلع بل تحولت إلى عولمة رقمية تتسلل إلى تفاصيل وعينا وتعيد تشكيل أنماط تفكيرنا وسلوكنا من خلال شاشة مضيئة تحمل العالم كله في راحة اليد. إنها عولمة بلا حدود لا تحتاج إلى جيوش أو اتفاقيات يكفيها خوارزمية تعرف ماذا نحب وماذا نخاف ومتى نضعف.

في زمن العولمة الرقمية لم تعد الهوية الوطنية مجرد انتماء إلى أرض أو تاريخ أو لغة بل أصبحت معركة وعي في فضاء مفتوح لا يعترف بحدود. فحين يصبح العالم قرية صغيرة يصبح الحفاظ على الذات الثقافية أصعب من أي وقت مضى لأن "الآخر" لم يعد هناك بل صار يعيش بيننا يتحدث بلغتنا ويتسلل إلى وعينا دون أن نشعر.

العولمة القديمة كانت تفرض منتجاتها أما العولمة الرقمية فتفرض نماذجها وقيمها ورؤيتها للإنسان. فالمحتوى الذي يصلنا عبر المنصات لا ينقل فقط أخبارا أو ترفيها بل يحمل منظومة فكرية كاملة تعيد تعريف مفاهيم مثل الحرية والنجاح والجمال والعلاقات. وهنا تبدأ معركة الهوية: كيف نحافظ على تميزنا الثقافي والإنساني دون أن نتحول إلى كائنات رقمية بلا جذور؟

ما يثير القلق حقا أن التكنولوجيا التي وُلدت لتقرب المسافات صارت تُبعد الإنسان عن ذاته. فكل “إعجاب” أو “مشاركة” أو “متابعة” تبدو بسيطة لكنها تشكل ببطء صورة ذهنية جديدة لأنفسنا وللعالم. صرنا نقيس قيمتنا بعدد المتابعين لا بما نملك من علم أو أخلاق أو إنجاز. وتحت هذا السيل من المقارنات والرموز والصور تذوب الفوارق بين الأصيل والمصطنع بين الإنسان الحقيقي وصورته على الشاشة.

لكن الهوية ليست شيئا هشّا يمكن أن يُمحى بتطبيق أو منصة.
إنها جذور تمتد في عمق التاريخ تشرب من تراب الأرض ومن ذاكرة الأجيال. الهوية ليست مجرد موروث بل وعي متجدد بالذات يستمد قوته من الإيمان بقيمة الإنسان وقيمة الوطن. لذلك فالمعركة الحقيقية ليست بين "القديم والجديد" بل بين من يملك وعيا قادرا على الفرز والتمييز ومن ينساق وراء ضجيج العالم دون بصيرة.

لقد أدركت الدول الذكية أن الحفاظ على الهوية لا يعني الانغلاق بل إعادة تعريف الذات في عالم متغير. اليابان مثلا دخلت قلب الحداثة دون أن تفقد روحها والصين دخلت الثورة الرقمية وهي أكثر تمسكا بلغتها وثقافتها أما نحن في عالمنا العربي فمعركتنا لا تزال مفتوحة: كيف نكون جزءا من المستقبل دون أن نفقد جذورنا؟

وهنا تأتي أهمية الدور الثقافي والتربوي والإعلامي. فالمسألة ليست في منع التكنولوجيا بل في تسليح الأجيال بالوعي الذي يجعلهم مستخدمين أحرارا لا أدوات في يد الخوارزميات. لا نحتاج إلى أسوار تحجب العالم بل إلى عقول تعرف كيف تختار.
إن المدرسة والمسجد والبيت والإعلام ليست مؤسسات منفصلة بل جبهات دفاع عن الوعي وإذا سقط الوعي سقطت الهوية.

إن أخطر ما تفعله العولمة الرقمية ليس اختراق البيانات بل اختراق المعاني. فهي تغيّر طريقة رؤيتنا لأنفسنا وتعيد تشكيل صورة الوطن في ذهن الشباب. ولذلك فإن كل لحظة وعي وكل كلمة صادقة وكل محتوى نقي هو شكل من أشكال المقاومة، ليس ضد العالم بل من أجل الإنسان.

لن ننجو من العولمة الرقمية إذا اكتفينا بالخوف منها بل سننجو حين نصنع حضورنا داخلها. أن تكون لك هوية في الفضاء الإلكتروني يعني أن تكتب بلغتك، وتفكر بقيمك، وتقدّم للعالم صورتك الحقيقية لا الصورة التي يرسمها غيرك.
أن تكون مصريا أو عربيا في العالم الرقمي لا يعني أن تعادي الآخر بل أن تملك صوتك المستقل وسط هذا الصخب العالمي.

قد لا نستطيع إيقاف الموجة الرقمية لكن يمكننا أن نتعلّم السباحة فيها دون أن نفقد الاتجاه. فالهويات لا تموت ما دامت تعرف كيف تتجدد والعقول لا تُستعبد ما دامت تفكر بحرية.

نعم نحن في زمن صعب لكنه أيضا زمن الفرصة الكبرى .
فمن رحم الفوضى الرقمية يمكن أن تولد نهضة فكرية جديدة إذا استعدنا الثقة في ذواتنا وأعدنا تعريف علاقتنا بالعالم على قاعدة الاحترام المتبادل لا الذوبان.

في النهاية المعركة ليست بين الإنسان والتكنولوجيا بل بين الإنسان وذاته.
فمن يعرف من هو لا يخاف من أن يكون جزءا من العالم.
ومن يفقد هويته لن ينقذه أي تكنولوجيا مهما بلغت من ذكاء.

مساحة إعلانية