مساحة إعلانية
يومٌ غسل وجه التاريخ كان صباح السادس من أكتوبر عام 1973م صباحًا مختلفًا؛ كأن الزمن قرر أن يتطهّر بماء النيل قبل أن يكتب فصلًا جديدًا في كتاب الكرامة.
السماء صافية على غير عادتها، والهواء يحمل نبوءةً بأن اليوم ليس كالأيام — اليوم ستتكلم الأرض بلسان أبنائها، وتستعيد مصر مجدها المفقود. المدافع تتكلم... والطائرات تغني للوطن عند الثانية ظهرًا، دوّى أول صوتٍ للمدافع المصرية، وانطلقت الطائرات من قواعدها كطيورٍ من لهب، تكتب في السماء نشيد الحرية.
وفي لحظاتٍ معدودة، كان الجيش المصري يعبر قناة السويس، يكسر حاجز الخوف ويهدم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. لقد كانت المدافع تغني، والسماء تصفق، والأرض تنحني إجلالًا لرجالٍ آمنوا بأن النصر وعدٌ لا يُخلفه الله.
ملحمة العبور... حين قاتلت القلوب قبل البنادق لم يكن العبور مجرد عملية عسكرية، بل ملحمة إنسانية مكتملة الأركان. جنودٌ خرجوا من خلف خطوط النار، يحملون على أكتافهم تاريخ أمةٍ كاملة من الصبر، وأعينهم تلمع بإيمانٍ صلب أن الوطن لا يُستعاد إلا بالدم الطاهر. كانت القلوب تقاتل قبل البنادق، وكان كل شهيد يزرع في تراب سيناء وردةً من خلودٍ ودمعٍ وأمل.
وحدة العروبة... حين نهضت الأمة من رمادها لم تكن مصر وحدها في تلك اللحظة، بل كانت الأمة كلها تنهض معها. من الخليج إلى المحيط، كانت الأصوات ترفع الدعاء والدماء، وكان سلاح النفط العربي يُستخدم لأول مرة كرمزٍ للقوة والسيادة. لقد أثبت العرب أن الوحدة ليست حلمًا بعيدًا، بل ممكنة حين يجتمعون حول شرف الكرامة وحرية الأرض.
النصر... حين تنكسر الأسطورة ويُولد الأمل. تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وتهاوت جدران الغرور الإسرائيلي أمام إرادةٍ من حديد. لم يكن النصر هدية السماء، بل ثمرة الإيمان، ونتيجة لسنواتٍ من الإعداد والعزيمة والصبر. لقد استعاد المصريون ثقتهم بأنفسهم، واستعادت الأمة العربية إيمانها بأن الكرامة تُنتزع ولا تُمنح.
نداء الأبطال ..واليوم، بعد مرور أكثر من نصف قرن على ذلك اليوم المجيد، ما زال السادس من أكتوبر ينبض في القلب المصري. لا نستعيده كذكرى، بل كروحٍ حيّة تذكّرنا أن مصر لا تُهزم، وأن النصر يولد كلما آمنا بأنفسنا.
إن أبطال أكتوبر تركوا لنا وصيتهم مكتوبة بدمائهم الطاهرة:
“احفظوا الوطن كما حفظناه، فالوطن لا يعيش إلا في صدور من يحبونه.”
السادس من أكتوبر لم يكن صفحة في كتاب الحرب، بل فصلًا خالدًا في كتاب الحياة. هو اليوم الذي علّمنا أن العزيمة تصنع المعجزة، والإيمان يصنع التاريخ. هو يومٌ حين تنحني له الأيام احترامًا، لأن فيه عبرت مصر من العتمة إلى الفجر، ومن الانكسار إلى الخلود.