مساحة إعلانية
هي بالفعل آخر عنقود المحنة الذي لفني طوال عمري، أعني به خالاتي، بنات جدي (عبد الغني) وجدتي ( لهلوبة ) رحم الله الجميع. وهي بالذات أقربهن إلي، فهي لا تكبرني بأكثر من سبع أو ثماني سنوات، وهذا الفارق السني، لا يعد فارقا يعتد به في المراحل السنية الأولى، كنا نلعب معا، ونتنافس على مكانتنا في قلب جدي وجدتي. كانت جدتي تغدق علي أنا – ربما ظاهريا - من حنانها أكثر مما تبديه لخالتي أصغر بناتها، فأنا اليتيم الذي يستحق العطف، أما هي فهي آخر البنات وعقب العنقود، هي ترى من حقها أن تتساوى على الأقل مع خالي (علي) الذي يكبرها بسنة أو سنتين في كل شيء. وهي لها الحق في بيت أبيها وأمها، وحضن أبيها وقلب أمها، أكثر مني أنا واخواتي أبناء أختها الأرملة. لهذا كان ما بيننا من منافسة غير محسوم، فجدي وجدتي لا يرغبان أن يقال عنهما أنهما يعطفان على أولادهما أكثر من الأيتام.
نشأنا معا، نتعابث، ونتخاصم ،ونتصالح كأخ وأخته، قد تثور هي على هذه المعادلة التي تراها ظالمة، فهي خالتي والأكبر مني، وعلي أن أضع هذا في حسباني، وألا أناديها باسمها دون أن يسبقه لفظ (خالتي). على الأقل أمام بنات (البوابة) وجيرة الحقول. لم يكن من أولاد جدي من يقيم معنا في البيت سواها. كان خالي (علي) منشغلا بالمدرسة، وخالي (أحمد) بالجيش أو بالشرطة فيما بعد. وكان فقدنا لخالي (حلمي) هو الأشد ألما على كلينا ، فلم يعد لدينا من نحتمي به أو تلوذ؛ حين يجور علينا طفل، أو يسيء معاملتنا رجل. وكانت خالتي هي من ينبري للدفاع عني. بلسانها الذي لا يعيقه عائق، وربما بقحفها الذي تستله من وراء الباب في (البوابة الكبيرة) أو من بين (طنون) البوص في (السنيح ) وهو الحقل الذي نكثر من التردد عليه لقربه من البيوت.
كنت قصير القامة بشكل لافت، أخف وزنا من دكر البط الذي قد تحمله تحت إبطها، فكانت تعمد إلى حملي على كتفها حين تذهب لتشارك في فرح خارج البوابة. كانت تتميز بصوت جميل، على الأقل في أذني، وكنت أطرب حين أحضر معها تلك المشاركات المبهجة، وكنت أحفظ ما تقوله البنات من غناء في الأقراح التي أحضرها مع خالتي، وأعيده على مسامع أمي وأخوي.
ولعل أكثر المواقف بقاء في ذهني هو حضورنا لفرح طهور( ولد معز) الذي رأيت فيه لأول مرة شباب قريتي وهم يقدمون فصلا من فصول(أبو عجور) الفكهة، كانت تحملني على كتفها رغم أنني لم أعد صغيرا، كنت في السابعة وانتظمت في المدرسة، وكانت هي قد صارت عروسا بتعبير قريتنا، لكنها حملتني لأتمكن من رؤية التمثيل الذي يجري في بقعة دائرية بين (الدكك) التي جلس عليها الرجال من الحضور، ووقفت النساء والفتيات خلف (الدكك) بعيدا عن ضوء (الكلبات) المبهر.
حين تدرجت في مراحل التعليم، كان قد ألم بنا حزننا لفقد خالي (حلمي) في معركة من المعارك العبثية؛ التي تجري من وقت لآخر في قرانا. وكان حصولي على الإعدادية في ذلك الوقت، أمرا يستحق الفرحة، بل والزغاريد، لكن كيف لأمي أن تزغرد وهي تحمل مرارة حزنها في قلبها الكسير. لم تتردد خالتي طويلا قبل أن تطلق زغرودة عالية، لتعلن أن ابن اختها (أخد الإعدادية)، كانت تعلم أنها ستتلقى اللوم من أمها وأمي لهذا التصرف الذي لا يليق بمن مات أخوها من عام واحد .
لا تبدو صورة خالتي في ذهني إلا متشحة بالسواد تحمل طفلها الذي لم تلده، فقد فرض عليها فقد خالي حلمي لبس الأسود حتي يوم عرسها. وكان من الغريب أن تراها تحمل طفلا رضيعا، لم يكن ابنها بالطبع، لكنه(عصمت ) كان ابن اختها التي توفيت وتركته رضيعا. ولم تزل خالتي الحزينة تمارس دور الأم مع هذا الطفل محبة وحنانا ورعاية حتى صار صبيا قبل أن تتزوج .
أذكر حين جاء جدي (أحمد الحاج حسين) إلى بيت جدي عبد الغني مساء، وبعد أن جلس إلى جدي قليلا، غادر متمنيا أن ( يتمم ربنا بخير). سألت أمي ما الذي سبتم بخير، قالت أمي: خالتك جالها عريس. كان الأمر متوقعا، بل تأخر كثيرا مراعاة لما في البيت من حزن. لكن قلبي ارتجف، فليس في البيت غيرها لي، هي خالتي ورفيقتي وصديقتي، حتى بعد أن احتجزها البلوغ في البيت، كنت لا أفارقها إلا لعمل أكلف به. قالت جدتي لجدي محتدة كعادتها: عبد الغني .. إيه اللي هيتمه ربنا بخير ..؟!!. ضحك جدي قائلا : أحمد الحاج حسين خطب بتك لولده ..وأنا وافقت. ثارت ثائرة جدتي، فقد كانت ترى الخطيب دونها في المستوى، قال جدي بحسم: العريس ولدعمها.. والضفر يما يطلعش باللحم .. وإن كان ع الأرض فدي شغلة ربنا.. مالناش فيها غير( المتر ف متر) إللي هيلمنا يابت نصير ..!! قالت : ما لقيتش غير ولد زرزخ .. ؟ نظرت إليها أمي لائمة بحدة. لم يرفع جدي صوته، لكنه أكد في هدوء موقفه قائلا: يوم لاربع .. هنشترو الدهبات من (طما) .
صمتت جدتي قليلا، فهي تعرف جدي جيدا ، فلن يثنيه عن قناعاته شيء. سألت بنبرة مغايرة: مين فيهم؟. قال جدي: محمود .. رفعت جدتي صوتها معترضة: وليه مش بلال؟ هيه بتي وحشه ؟!!. هدأها جدي بطريقته اللطيفه: محمود الكبير ..!!عايزه الراجل يجوز الصغير قبل الكبير ..؟!! دي تبقى شنعه.. !! سكتت رغم عدم قناعتها بمنطقه ، كان (بلال) ألطف وجها، وأقوى جسما، ضحوكا، أما (محمود) فكان ضئيل الجسم، أقرب لأمه التي لا تحبها جدتي من أبيه، لكنه كان جادا، لا يترك فرضا، ونادرا ما يبتسم بلا مناسبة.
لم يكن لخالتي أن تعترض بعد موافقة أبيها وأمها، وشجعتها أمي على القبول وإلا ستعنس وتبقى زي فلانه و علاَّنه. ويبدو أن خالتي كانت في قرارة نفسها تفضل الزواج من أي رجل يخرجها من الحداد الأزلي الأبدي التي هي فيه. جاء بوم الدخلة، وحين رأيتها في ملابس ملونه، كدت لا أصدق أنها خالتي. كانت جميلة، ولكنها لم تكن فرحة. الغريب أنني شعرة بغيرة من زوجها الطيب، بل تنحيت جانبا قبل أن أشارك في زفة العروسة .. وبكيت.