مساحة إعلانية
الـشـــارع الأدبــي يعده ويقدمه / فضل محمد إبراهيم
أثناء جولتي الممتعة بالشارع الأدبي أجدني متجولا بمحافظة القاهرة، بحي مصر الجديدة، كان الموعد مع صديقي الأديب المبدع والناقد الراقي / محمد فايز حجازي
ولنتعرف معا على أديبنا المبدع من خلال سيرته الذاتية:
- محمد فايز حجازي ..
- قاص وروائي
- من مواليد حي السيدة زينب بالقاهرة. - تخرج في كلية هندسة البترول- جامعة القاهرة.
- يعمل كمهندس لحفر آبار البترول.
- عضو بالجمعية الأمريكية لمهندسي البترول SPE. - نشرت له العديد من القصص والمقالات في الدوريات المصرية والعربية. - صدر له ست مجموعات قصصية ورواية عن دار "ببلومانيا للنشر والتوزيع"
هي:
* " الجنة المحترقة"
* " سفير إبليس"
* " سرقة الإمام"
* " أزمة قلبية"
* " أنتيكات - أسفار عن الفقد والحنين"
بالإضافة إلى مجموعة زجلية بعنوان :
* "نبض الاماكن"
-" الأقدام السوداء " رواية
وله تحت الطبع مجموعة قصصية بعنوان * "ترزي لكل الأغراض"
و رؤية نقدية تحت عنوان :
* "الوسط الأدبي حكاوية وما يحدث فيه"
وننشر هنا في منبر التحرير احدى قصصه بعنوان :
حــدث فـي الميـــدان
محمـد فــايــز حجــازي
- إلى أين ؟! ( سألته الزوجة بينما هي جالسة في صالة بيتهما القديم، تُعمل إبرة الخياطة في مهارة ، تعالج بها ثقوب ورتوق بعض الملابس القديمة ) .
- أخي في صحبة صديق قديم، ينتظراني تحت القلعة في ميدان صلاح الدين، عند النافورة هناك . ( أجاب الزوج وهو يهم واقفًا بعد أن انتهى من ربط حذائه الأسود اللامع ).
- خذه هو أيضًا معك. يلعب في جواركم بدراجته (استعطفته الزوجة).
- لا.
- لماذا ؟
- لأنه فاشل، عديم الفائدة، (أجاب الزوج بانفعال). ثم صمت برهة وقال : لا يذاكر.
- لا يذاكر! لقد ذاكر طوال اليوم. (احتجت الزوجة).
في ركن منزو من الصالة، استفاق من غفوته صبي في الرابعة عشر من عمره، نحيلًا، قصير شعر الرأس، يرتدي بنطالًا رياضيًا أحمر، وقميصًا قطنيًا أبيض، وينتعل صندلًا جلديًا بني. يجلس على كرسي خشبي صغير، ينظر خلسة جهة أبيه وأمه، ويضع علي ركبتيه كتابًا مغلقًا، كتب علي غلافه " قواعد النحو للمبتدئين " - حسنًا، (قالها الزوج مخاطبًا الطفل في قسوة، ورافعًا رأسه في صرامة) إعرب هذه الجملة "أنا مقصر في أداء واجباتي".
نهض الطفل بطريقة آلية كما يفعل في المدرسة، وقال بلا تفكير:
- أنا، ضمير متكلم مبني علي الضم في محل رفع مبتدأ، مُقصر (قالها الطفل متعتًعا ومرتبكًا، ثم صمت ولم يزد حرفًا).
أومأ الزوج برأسه ساخرًا وقال:
- هذا يعني أنك سترسب في امتحان الملحق أيضًا.
- هو يعرف لكنه يرتبك لأنه يخاف منك. (قالتها الأم مدافعًة عن صغيرها).
- سأخرجه من المدرسة (قالها الزوج ثم كررها مشجعًا نفسه)، يقينًا سوف أخرجه من المدرسة، فليكن.. (ثم صمت برهة وقال)، فليكن صبي ميكانيكي.
حتى هو نفسه لم يدر علي وجه التحديد، لماذا اختار هذه الصنعة، وفي الغالب لم يفكر فيها أبدًا .
- تعال إلى هنا يا حسن (قالت الأم في حنان)، سوف تذاكر يا حبيبي أليس كذلك؟ (واصلت وهي تضمه إلي حضنها) ولسوف ....
- يشعل غضبي هذا الغبي. (قاطع الزوج كلامها)، ثم كرر جملته مستمتعًا، وكأن الغضب يوسع شرايينه ويجعله يتنفس بشكل مريح، ويخلصه بشكل لطيف من ملل ما بعد الظهيرة.
- سأذاكر . (تمتم الولد في ذل وبصوت يكاد لا يسمع، باحثًا عن الحماية في حضن أمه).
- لا تذاكر (لوح الزوج بيده).. لا تذاكر أبدًا.. لا فائدة مرجوة منك.
- بل سيذاكر. (قالت الأم وهي تمسح علي شعر الصبي، محتضنًة رأسه تحت إبطها)... أما أنت فاعف عنه. (قالتها موجهًة كلامها للزوج)، ثم حولت كلامها للصبي قائلًة علي حين غرة، (حسن يا حبيبي، خذ دراجتك وانتظر عند باب المنزل، أبوك سوف يأخذك معه إلى الميدان كي تلعب في جواره.
لم يفهم الولد ما حدث، كيف أنهت أمه تلك المشاحنة، بهذه السرعة وعلى هذا النحو الاستبدادي، لكنه رغم ذلك هرول خارجًا إلي الشرفة، وبقطعة قماش قديمة أزاح الغبار عن دراجته، ثم طبع قبلة علي وجه أمه المعشوق، وخرج مسرعًا إلي باب المنزل، دون أن يلتفت إلي أباه، الذي بدا متحيرًا وهو يتوجه بدوره إلى الباب، دون أن ينبس ببنت شفة لزوجته، بينما استمرت هي في رتق ثقوب الملابس القديمة. كان الولد قد رسب في امتحان آخر العام، في السنة الثالثة الإعدادية، في مادة اللغة العربية، وهو في الصيف يستعد لامتحان الملحق، وقد حرمه أبوه حتي ظهور نتيجة امتحان الملحق، من اللعب بالدراجة، أو النزول إلي الحارة لرؤية أحد من أصدقائه، وها هو الآن يتشبث بالفرصة واقفًا منتظرًا أباه عند الباب، ينظر إلى الأرض في ترقب. عبر الأب بجواره مُتصلبًا، أما وجهه الذي تفحصه الولد بنظرة سريعة من الجانب، فقد كان متجهمًا، مرفوعًا ينظر إلى اللا شيء. هكذا تراءى للولد أن أباه لا يلاحظه ولا يعبأ به. الولد الذي كان الخبر المفرح قد أشعل نشاطه، صار الآن حزينًا، يسير بتمهل، شعر بظمأ وأراد أن يشرب، وأراد الذهاب لقضاء حاجته، تمنى أن يستدير إلى الخلف، لكنه خاف من توبيخ أبيه له مرة أخرى، وهكذا وجب عليه تقبل الموقف في ظل مخاوفه من حدوث ما هو أسوأ، وانتظر ليرى ماذا عساه أن يحدث له. كان الطريق من المنزل إلي الميدان يُقطع كاملًا في أربع دقائق، وكانت الحارات المتعرجة التي تفضي إلي الميدان بائسة للغاية، ووضيعة في حالة يرثى لها، بعض النساء والرجال علي عتبات البيوت المتهالكة، يأكلون البطيخ والذرة مرتدين جلاليب صيفية، وبعضهم عاري الأقدام. ألقى الرجل التحية على معارفه بصوت لطيف، صوت استنتج الولد منه، أن أباه ليس غاضبًا للدرجة التي يظهرها، غير أنه بعد ذلك قطب جبينه مرة أخرى في قسوة. كان الرجل يسبق ابنه بعشرين خطوة تقريبًا، وكان الابن يركض خلفه دون أن يركب دراجته التي يشتاق إليها، حتى سحق صندله الجلدي الغبار، وأدرك أباه سريعًا لكنه أبطأ السير قبل أن يصل إليه بعدة خطوات، وانسل بحذر جانبه مثل الكلب، لأنه مازال غير متيقن من أن أباه لن يزجره للخلف، وكان من فرط اضطرابه أثناء سيره يتفحص قدميه، يتفحصهما بانتباه كما لو كان يراهما لأول مرة.علي هذه الحالة ، اخترقا الحارات حتى وصلا إلي النافورة في الميدان .
النافورة ..الميدان ، النافورة ..الميدان ، النافورة..الميدان، تلك الكلمتين اللتين سمعهما كثيرًا في البيت ، ولم يحظ برؤيتهما ليلًا قط، دائما ما كان يسأل نفسه كيف تتدفق المياه عبر النافورة في الميدان ليلًا، تخيلها بكل الصور، وهكذا أحاط به مشهد الميدان ليلًا كواقع خفي، فخم ومضيء وصارم ومتعذر بلوغه، لم يكن بإمكانه المجيء إلي هنا تحت أي ذريعة أو حجة من الحجج.
كان مشهد قلعة صلاح الدين والمساجد القديمة، المحيطة بالميدان من كل جانب متوجهًا، بإضاءات رائعة وخلابة على الجدران، تمامًا مثل إضاءة الفلاشات أثناء التصوير ليلًا، وكانت المياه تتدفق من النافورة ملونة ومتراقصة في هدوء ساحر. بعد أن وصلا إلي الملتقي، تبادل الأب التحية مع أخيه وصديقهما اللذين قبلا الولد في حنان، ظل الولد يدور بدراجته حول النافورة في فرح وقد اكتسب بعض من ثقة، فأبيه سعيد يضحك مع جالسيه والأمر يسير علي خير وفي هدوء.
- أخبرني أخوك أن ابنك في سنه الصغير هذا، يسمع أغاني الأسطورة محمد عبد الوهاب ويحفظ كلماتها. (قالها الصديق ولم ينتظر ردًا من الأب). حسن.. حسن (واصل مناديًا علي الولد).
- نعم يا عمي (قالها الولد في أدب بعد أن توقف بدراجته أمامه).
- علمت أنك من عشاق الموسيقار عبد الوهاب.
- نعم، جدًا، أحب موسيقاه، أسمعه في الراديو مع أمي.
- أنت من عشاق الراديو أيضًا!
- نعم .
- أي برامج الراديو تحب!
- غواص في بحر النغم، من تسجيلات الهواة، ما يطلبه المستمعون، تسجيلات من زمن فات، وغيرهم الكثير. (أجاب الولد في ثقة).
- رائع، أنت ولد موهوب، أنا أيضًا من عشاق عبد الوهاب وأعشق سماع الراديو، ألا أخبرتني عن آخر أغنية سمعتها قبل لقاءنا؟
- النيل نجاشي.
- وهل تعلم معنى نجاشي!
- نعم، أي من الحبشة، وقد كتب هذه الكلمات أمير الشعراء شوقي.
- ممتاز، أنا لا أصدق! كم أنت رائع يا حسن، من الآن نحن أصدقاء، سنتقابل ونتحدث كثيرًا، فليس لدي من الأصدقاء من هم في مثل روعتك ( قالها ونظر لصديقيه بابتسامة ذات مغزى )
- أشكرك يا عمي (قالها الولد بعد برهة صمت، وهز كتفيه في خجل).
- ابنك ولد لطيف مدرك واعٍ، ويبدو أنه طالب ناجح أيضًا. (قالها الرجل للأب الذي كان شاحب الجبين يتصبب عرقًا).
- نعم ان ابني هذا ولد مجد، مجتهد. (قالها ونظر إلي ولده في فخر). الآن أسرع يا حبيبي إلي المنزل كي تنام مبكرًا (قالها واحتضنه ثم قبله)، مع السلامة يا حسن (أضاف في حنان). احمر وجه الولد حتى أذنيه، حيا الجميع، ولكنه انحنى أولا أمام أبيه، ومضى بدراجته في طريق العودة، طريق الحارات المتعرجة.
فكر مليًا، لماذا عاملني أبي هكذا! هو في البيت لا يعاملني هكذا أبدًا، تشعثت الأفكار وتشابكت في رأس الصبي الصغير، توهجت وجنتاه وأذناه، وأخذ يعتصر مقود دراجته بكفيه المبللتين بالعرق. كان سعيدًا، مضطربًا، ومرتبكًا، أخذ يمضي ويمضي في الحارات، ثم نشج باكيًا وركض، في أثناء الركض كان يمسح دموعه التي تسيل علي وجنتيه، كان يمسحها بيد ويمسك الدراجة باليد الأخري.
واصل الركض ... واصل الركض باكيًا حتى وصل إلي المنزل.