مساحة إعلانية
قراءة في الفكر التوسعي الصهيوني ونظرية دوغين الرابعة.
منذ نشأتها لم تكن إسرائيل مجرد دولة قومية لليهود بل مشروعاً توسعياً متعدد الطبقات، بدأ كأسطورة توراتية حول أرض الميعاد والخلاص والعودة في آخر الزمان، ثم تحوّل إلى واقع سياسي عبر أدوات الاستيطان والتهويد والتهجير. هذا المشروع الذي تبلور مع هرتزل ووايزمن وبن غوريون لم يكن منفصلاً عن السياق الدولي، بل تأسس على تحالفات استراتيجية مع القوى الغربية، بدءاً من بريطانيا التي رعت وعد بلفور إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي وفّرت الدعم العسكري والمالي إضافة إلى وفرنسا التي سلّحت إسرائيل في حرب 1967، والاتحاد السوفيتي الذي دعمها في البداية لضرب النفوذ البريطاني.
لكن هذا التوسع لم يكن فقط جغرافياً بل رمزياً ووظيفياً، حيث تحولت إسرائيل إلى أداة بحرية في قلب الشرق الأوسط تخدم مصالح الحضارة الغربية الأطلسية وتُعيد تشكيل الجغرافيا السياسية العربية بما يتوافق مع منطق الهيمنة،وهنا تبرز أهمية الربط بين المشروع الصهيوني ونظرية ألكسندر دوغين الرابعة، التي تطرح تصوراً مضاداً للهيمنة الغربية يقوم على بناء منظومة متعددة الأقطاب تُعيد الاعتبار للحضارات الأرضية في مواجهة الحضارة البحرية الليبرالية.
دوغين يقسم العالم إلى مجالات حضارية:
- الحضارة الروسية السلافية الأرثوذكسية، التي تمتد نحو جنوب الاتحاد السوفيتي وتركيا.
- الحضارة الصينية والهندية، ذات امتداد في آسيا الوسطى والغربية.
- الحضارة الإيرانية الإسلامية، التي تشمل الشرق الأوسط.
- الحضارة الغربية الأطلسية، التي تسعى للهيمنة عبر أدوات سياسية واقتصادية وثقافية.
في هذا التصور، تُعد إسرائيل امتداداً وظيفيًا للحضارة الغربية لا بوصفها دولة مستقلة، بل كقاعدة متقدمة لإعادة هندسة الشرق الأوسط وتفكيك الجغرافيا السياسية العربية وتعميق التبعية للغرب. فكما تسعى روسيا إلى استعادة مجالها الحيوي عبر الأقاليم السلافية تسعى إسرائيل إلى توسيع مجالها الحيوي عبر السيطرة الرمزية والمادية على الأرض والقرار في المنطقة.
الخطاب الصهيوني المعاصر لا سيما في عهد نتنياهو يُعيد إنتاج فكرة إسرائيل الكبرى ليس فقط عبر التوسع الاستيطاني، بل عبر التطبيع وإعادة تعريف الحدود وفرض سردية أمنية تُبرر الضم والتهويد، هذا الخطاب يتقاطع مع منطق الحضارة البحرية الذي ينتقده دوغين حيث تُستخدم الأساطير الدينية لتبرير مشاريع استعمارية وتُعاد صياغة الجغرافيا وفق مصالح القوى الكبرى.
لكن الفرق الجوهري يكمن في أن إسرائيل لا تطرح نفسها كحضارة مستقلة، بل كذراع وظيفي للغرب بينما تسعى نظرية دوغين إلى بناء حضارات مستقلة مقاومة للهيمنة، ومع ذلك فإن التشابه في منطق التوسع وإعادة تعريف الجغرافيا وفق سرديات تاريخية ودينية، يجعل من المقارنة مدخلاً لفهم كيف تُستخدم الرموز في خدمة السياسة وكيف تتحول الأسطورة إلى أداة في صراع الحضارات.
إن مقاومة إسرائيل الكبرى في هذا السياق ليست فقط مقاومة احتلال، بل مقاومة هندسة حضارية تُقصي العرب من التاريخ والجغرافيا وتُعيد إنتاجهم كتوابع في مشروع أطلسي لا يعترف بوجودهم إلا كوظيفة.