مساحة إعلانية
يترقب المشهد الاقتصادي في مصر واحدًا من أهم اجتماعات البنك المركزي هذا العام، حيث يُعاد رسم ملامح السياسة النقدية في مرحلة تبدو فيها المؤشرات أكثر توازنًا مما كانت عليه خلال السنوات الماضية. وبينما كان التثبيت هو الخيار الأكثر أمانًا في الاجتماعات السابقة، تبرز اليوم لأول مرة نافذة حقيقية لاحتمال خفض الفائدة بنحو 100 نقطة أساس، في خطوة قد تعكس تحولًا من “إدارة الأزمة” إلى “إدارة النمو”.
اقتصاد يلتقط أنفاسه… وبيئة تدعم اتخاذ قرار جريء
لم يكن الحديث عن خفض الفائدة مطروحًا بجدية خلال العامين الماضيين، لكن التحولات الأخيرة في المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن الاقتصاد المصري بدأ يستعيد قدرته على التنفس دون الاعتماد المفرط على الفائدة المرتفعة.
فقد ارتفع صافي الاحتياطيات الدولية إلى 50.1 مليار دولار في أكتوبر، وهو أعلى مستوى في تاريخ مصر، مع نمو شهري ثابت وزيادة تتجاوز 6% منذ بداية العام. هذا النمو لا يعكس فقط تدفقات نقدية مستقرة، بل يرسل رسالة ضمنية بوجود قدرة أكبر على امتصاص الصدمات الخارجية وإدارة التزامات الدولة دون ضغوط حادة.
وفي سياق موازٍ، شهدت البنوك المصرية تحسنًا استثنائيًا في صافي الأصول الأجنبية الذي ارتفع إلى 20.8 مليار دولار في سبتمبر، وهو ارتفاع يفوق أربعة أضعاف مستواه مطلع العام. هذا التطور يعد أحد أهم مؤشرات الخروج التدريجي من أزمة العملة التي كبّلت الاقتصاد لسنوات.
عودة الثقة… وتدفقات ترتفع
التحسن لم يقف عند حدود المؤسسات، بل امتد إلى المصريين العاملين بالخارج الذين دفعهم استقرار سوق الصرف إلى تحويل 3.5 مليار دولار في أغسطس وحده، بزيادة بلغت 35% على أساس سنوي. هذا الارتفاع لا يمكن فصله عن انحسار السوق الموازية وعودة الثقة في النظام المصرفي.
كما شهدت إيرادات قناة السويس انتعاشًا ملحوظًا منذ وقف إطلاق النار في غزة، ما خفّف أحد أكبر الضغوط التي واجهتها موارد النقد الأجنبي خلال العام.
الإشارات الدولية… تدعم التفاؤل
على المستوى الخارجي، انخفض مؤشر مبادلة مخاطر الائتمان CDS إلى 176 نقطة أساس بعد أنه كان فوق 379 نقطة قبل أقل من عام، وهو ما يعكس تحسنًا كبيرًا في نظر المؤسسات الدولية للوضع المالي المصري.
ورغم بقاء أسعار الفائدة مرتفعة، فإنها ما تزال توفر عائدًا حقيقيًا يقارب 10.7% بعدما بلغ العائد على أذون الخزانة لمدة عام 25.49%، الأمر الذي يحافظ على جاذبية أدوات الدين دون الحاجة لرفع إضافي.
تراجع التضخم… والقطاع الخاص يستعد للنمو
التضخم بدوره يواصل الهبوط ليسجل 12.5% في أكتوبر، مقابل أكثر من 22% خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ومع توقع ارتفاع طفيف في نوفمبر بسبب تعديل أسعار الوقود، يبقى الاتجاه العام للتضخم هبوطيًا.
وفي مؤشر على تحسن بيئة الأعمال، ارتفعخ مؤشر مديري المشتريات للقطاع غير النفطي إلى 49.2 نقطة في أكتوبر، وهو أعلى مستوى منذ بداية العام، ويقترب من مستوى 50 الذي يفصل بين الانكماش والنمو. أي خفض مرتقب للفائدة قد يكون الشرارة التي تدفع المؤشر إلى منطقة التوسع خلال الشهور المقبلة.
المعادلة الصعبة: الاستقرار أم النمو؟
القرار أمام البنك المركزي ليس سهلًا. فتثبيت الفائدة سيبعث برسالة مفادها استمرار التحوط وحماية استقرار الجنيه، فيما يشير الخفض إلى بداية مرحلة جديدة تستهدف تحفيز الاقتصاد الحقيقي، وتحريك الاستثمار، وتقليل تكلفة التمويل على الشركات والمصانع.
وبحسب عدد من المؤشرات، تبدو البيئة مهيأة أكثر من أي وقت مضى لهذا التحول، خاصة مع تراجع الضغوط التضخمية، وتحسن مصادر النقد الأجنبي، وعودة الجنيه لتحقيق مكاسب تقارب 8% منذ بداية العام.
خاتمة: القرار… أبعد من رقم
قرار الفائدة المرتقب لن يكون مجرد خطوة فنية على جدول أعمال البنك المركزي، بل رسالة تحدد اتجاه الاقتصاد في الشهور المقبلة. فهل يختار المركزي تثبيت الفائدة دعمًا للاستقرار؟ أم يُقدم على خفض مدروس يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من النشاط الاقتصادي؟
مهما كان القرار، فإن المؤشرات توضح أن مصر بدأت بالفعل تتحرك في اتجاه أكثر استقرارًا، وأن الاختبار الحقيقي لن يكون في قرار الفائدة ذاته، بل في قدرة الاقتصاد على تحويل هذه المؤشرات الإيجابية إلى نمو مستدام.