مساحة إعلانية
حقّقت الصين نموًا وازدهارًا كبيرين في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي طيلة العقود الأربعة الماضية نتيجة التوظيف الجيد للعائد الديموغرافي الناجم عن زيادة عدد سكانها، والذي يمثل قوة في رأس المال البشري في سن العمل، ومع تراجع مزايا عائدات رأس المال البشري خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة شيخوخة السكان وتناقص عدد المواليد، فقد ترتب على ذلك حدوث تباطؤ بدرجة ما في النمو الاقتصادي للصين.
تواجه الصين مشكلة ديموغرافية منذ أن أعلنت لأول مرة عن تراجع عدد سكانها عام 2022، نتيجة انخفاض معدلات المواليد، ومن ثم واصلت التراجع في عدد سكانها للعام الثالث على التوالي ليبلغ 1.408 مليار نسمة بنهاية عام 2024، بانخفاض قدره 1.39 مليون نسمة مقارنة بعام 2023. ولا تقتتصر مشكلة انخفاض معدلات المواليد على الصين وحدها، بل يمتد هذا الاتجاه ليشمل أيضًا دول شرق آسيا خاصة اليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج، حيث تعاني هذه الدول من مشاكل مماثلة في معدل النمو السكاني. وتظهر آثار المشكلة السكانية في الصين بارتفاع نسبة كبار السن والتي تعكسها الضغوط على نظام الضمان الاجتماعي والنظام الصحي. فقد بلغ عدد الصينيين في سن 60 عامًا فأكثر نحو 310 مليون نسمة، بنسبة 22% من إجمالي عدد سكان البلاد.
ترتب على تناقص عدد المواليد في الصين عدد من النتائج السلبية المرتبطة بعائدات رأس المال البشري، لعل أهم تلك النتائج السلبية، تنامي الشيخوخة بين السكان في سن العمل، والتي تتزايد بشكل متسارع مع التناقص المستمر في عدد السكان منذ عام 2022. فقد بلغ عدد الذين تتجاوز أعمارهم 65 عامًا نحو 15.4% في عام 2023، وهو ما يجعل المجتمع الصيني "مجتمعاً مُسنّاً" طبقاً لتعريف الأمم المتحدة.
تباطؤ النمو الاقتصادي، كان أيضًا من نتائج تباطؤ النمو السكاني في الصين. فقد ارتبط النمو والازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه الصين خلال العقود الماضية بما تمتلكه من قوة بشرية ضخمة في ظل الحجم الهائل لسكانها. ومع تراجع النمو السكاني تراجع معه النمو الاقتصادي، فقد سجل الاقتصاد الصيني أدنى معدلات النمو للناتج المحلي الإجمالي للصين منذ ثلاثة عقود، بلغت 3% في عام 2022. 5.2% في عام 2023. 5% خلال عام 2024. النتيجة السلبية الأخرى الناتجة عن تناقص عدد المواليد هو تراجع عدد السكان، حيث تواجه الصين في الوقت الحالي انكماشًا ملموسًا في عدد السكان، في ظل معاناتها من أحد أدنى معدلات الخصوبة في العالم؛ إذ بلغ معدل النمو الطبيعي للسكان -0.6%، وهي المرة الأولى التي تشهد فيها الصين نمواً سلبيًا لسكانها منذ عام 1962.
كان رد الفعل الصيني تجاه المشكلة الديموغرافية التي تواجهها سريعًا، فقد أقرت الحكومة الصينية حزمة من السياسات السكانية الجديدة لمواجهة تلك المشكلة، تمثل أهمها في تشجيع إنجاب المزيد من الأطفال، حيث ألغت في عام 2015 سياسة الطفل الواحد؛ بهدف تشجيع الأسر والعائلات الصينية على الإنجاب. وسمحت الصين للأزواج بإنجاب طفلين، كما بدأت في عام 2021، في تطبيق سياسة إنجاب طفل ثالث. وأعلنت في أغسطس 2022، إجراءات جديدة لتشجيع الأسر على إنجاب مزيد من الأطفال، من خلال زيادة الإنفاق على الصحة الإنجابية وتحسين خدمات رعاية الأطفال. وحدد الرئيس الصيني شي جين بينغ في أكتوبر 2022، زيادة معدلات المواليد كأولوية استراتيجية.
كذلك عملت الصين على إنهاء سياسة التبنّي الأجنبي، وذلك بعد ثلاثة عقود من تطبيقها، وتم خلالها تبنّي أكثر من 160 ألف طفل صيني من جانب عائلات في مختلف دول العالم منذ بداية تطبيق هذه السياسة في عام 1992. مع تشجيع الشباب على الزواج وإنجاب الأطفال. كما اتخذت الصين خطوة غير مسبوقة برفع سن التقاعد بصورة تدريجية، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1978. وبموجب القرار الذي سيتم تطبيقه على مدى 15 عامًا، سيزيد سن التقاعد للرجال من 60 عامًا إلى 63 عامًا، كما سيرتفع سن التقاعد للنساء من 50 عامًا إلى 55 عامًا للمهن اليدوية، ومن 55 عامًا للمهن المكتبية إلى 58 عامًا.
توجد اشكالية بين عدد السكان في أي دولة وبين النمو الاقتصادي، فبعض الدول تعتبر أن الزيادة في عدد السكان تسبب ضغطًا على المرافق والخدمات ومن ثم تشكل أزمة في ظل قلة الإمكانات القادرة على التوظيف الفعال للسكان في قوة العمل. بينما تعتبر بعض الدول، وخاصة الدول المتقدمة أن المشكلة الديموغرافية لديها تكمن في نقص عدد السكان. وتأتي الصين في مقدمة هذه الدول رغم أن عدد سكانها يزيد عن 1,4 مليار نسمة، خاصة أنها حققت طفرتها الاقتصادية بفضل توظيفها الفعال لهذا العدد من السكان باعتباره موردًا بشريًا مهمًا للنمو الاقتصادي.
ولكن رغم التناقص المستمر في عدد سكان الصين منذ عام 2022 بشكل مستمر، إلا أن ذلك التناقص لم يصل إلى مستوى الأزمة حتى الآن. تشير الإحصاءات الدولية أن النمو السكاني السلبي في دولة ما لا يعني بالضرورة تحول اقتصادها إلى النمو السلبي؛ حيث توجد 38 دولة ومنطقة في العالم تمر في الوقت الحالي بمرحلة النمو السكاني السلبي، ومع ذلك تحافظ غالبيتها على نموها الاقتصادي. فالصين لديها العديد من البدائل التي يمكن من خلالها تعويض هذا النقص من السكان على المديين القصير والمتوسط، لحين تحقيق سياساتها الديموغرافية نتائجها المرجوة واستعادة نموها السكاني. ولذلك فإن المشكلة الحالية المتمثلة في تناقص عدد السكان لن يؤثر على نموها الاقتصادي بشكل سلبي. خاصة أن عدد سكان الصين سيظل ثابت عند مستوى 1.4 مليار نسمة خلال العقود المُقبلة، لتظل الصين مستمرة كسوق ضخمة؛ ومن شأنه أن يسهم في تنمية صناعات البيانات الضخمة والإنترنت. وتزايد جودة القوى العاملة، وعملية التحول من سلسلة الصناعة مُنخفضة الجودة إلى سلسلة الصناعة المتطورة؛ ومن ثم زيادة إنتاجية العمال بشكل فعال.
يمكن للصين أن تستفيد من التطور التقني الذي حقّقته في مجال الروبوتات ومزاياها الاقتصادية، لمواجهة نقص العمالة وارتفاع تكلفتها؛ فقد قامت الصين بتدشين نصف الروبوتات الصناعية في العالم خلال عام 2022، لتحتل المرتبة الخامسة عالميًا من حيث كثافة الروبوتات في قطاع التصنيع. فضلاً عن استثمارات الصين في مجال الأتمتة لاستخدام التقنيات والآلات والبرمجيات لأداء المهام بدلًا من البشر، والتي أدت إلى ارتفاع معدل الروبوتات إلى 392 روبوتًا لكل 10 آلاف موظف. وعلى الرغم من استمرار انخفاض القوى العاملة في الصين؛ إلا أن حجمها لا يزال هائلاً، ومن المتوقع أن تضم 700 مليون شخص بحلول عام 2050، وهو ما يمثل قوة إضافية كبرى للقدرة الإنتاجية والنمو الاقتصادي للصين. هذا بالإضافة إلى تحسن المستوى التعليمي للعمالة الصينية، بما يترتب عليه تحول الهيكل الاقتصادي من الاعتماد على الاستخدام الكثيف للعمالة إلى الاستخدام الكثيف للتقنيات ورأس المال والمعرفة. خاصة وأن السياسات السكانية التي اتخذتها الصين كانت لها انعكاسات إيجابية على النمو الاقتصادي الكبير الذي شهدته خلال العقود القليلة الماضية، بما ترتب عليه تحولها إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم.