مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

حين تكشف الوثائق ما أخفته الدبلوماسية بقلم: شحاتة زكريا

2025-10-19 15:15:15 - 
حين تكشف الوثائق ما أخفته الدبلوماسية بقلم: شحاتة زكريا
شحاتة زكريا
منبر

في كل مرة تُفتح فيها خزائن الوثائق بعد سنوات الصمت ندرك أن التاريخ لا يُكتب بالبيانات الرسمية ، ولا تُروى السياسة كما تُذاع في نشرات الأخبار. فالدبلوماسية بحكم طبيعتها تتحدث بالقدر الذي يخدم اللحظة أما الوثائق فتتكلم عندما تصبح الحقيقة ضرورة وليست خيارا.

منذ أن بدأت موجات الكشف الأرشيفي في دول كبرى من واشنطن إلى لندن وموسكو وباريس ، بدأنا نرى ملامح أخرى لما كنا نظنه يقينا. ما كان يبدو اتفاقًا شريفًا ظهر في الوثائق صفقة مُقنَّعة ، وما ظنناه صراعًا قوميًّا تكشف أنه كان سباق نفوذ بين قوى تبحث عن موطئ قدم. تلك الأوراق القديمة التي حفظتها الأدراج لسنوات طويلة صارت اليوم مرآة تعكس ما أخفته التصريحات اللامعة خلف لغة المجاملة والحذر.

الوثيقة لا تعرف التجميل. لا تضع مساحيق على الحقائق. حين تُنشر تُعرّي الخطاب الرسمي من زخارفه وتُعيد رسم خريطة المواقف على نحو مغاير. لذلك كانت أكثر ما تخشاه الحكومات ليس صوت المعارضة بل صوت الوثيقة حين تنطق. فهي وحدها القادرة على تحويل الرواية الرسمية إلى رواية موازية ، وربما أكثر إقناعا.

خذ مثلا ما تكشفه بين الحين والآخر وثائق المخابرات المركزية الأمريكية أو الخارجية البريطانية عن مراحل الصراع العربي – الإسرائيلي. تُظهر الأوراق ما لم تقله التصريحات: كيف كان التفاوض يدور في غرف مغلقة بلغة مغايرة تماما عن تلك التي تُقال على المنابر وكيف كانت المصالح المتبادلة ترسم خطوطًا جديدة فوق الخرائط القديمة.

وفي منطقتنا كم من الملفات لم تفتح بعد؟ كم من الحروب والمواقف والاتفاقيات لا تزال محاطة بجدار الصمت الدبلوماسي؟ ما نعرفه هو أقل بكثير مما لم يُكتب بعد. لكن المؤكد أن كل وثيقة مؤجلة، تحمل في طياتها إعادة تعريف للمشهد وربما إعادة تقييم لأدوارٍ وأسماء طالما تصدرت المشهد.

السياسة في جوهرها فن إدارة الممكن ، أما الدبلوماسية فهي هندسة اللغة التي تُخفي المستحيل. ولهذا لا غرابة أن تكون الوثائق بعد عقود بمثابة عملية كشف حساب للتاريخ. هي ليست مجرد أوراق صفراء بل مفاتيح لفهم ما جرى وتذكير بأن الحقيقة لا تموت بل تنتظر لحظتها لتُقال.

في عالم اليوم ومع التحولات الجذرية في مفهوم القوة والتأثير باتت الوثائق المسربة أو المعلنة سلاحا جديدا في معارك الوعي. ما تنشره المؤسسات البحثية أو الصحف الكبرى لم يعد مجرد مادة للأرشفة بل أصبح جزءا من الصراع على سردية العالم. هناك من يوظف الوثيقة لتبرير وهناك من يستخدمها لفضح وثالث يقرأها بحثًا عن دروس المستقبل.

لكن يبقى السؤال: لماذا تُخفى الحقائق أصلا؟
الجواب بسيط ومعقد في آن. لأن السياسة لحظة بينما الحقيقة زمن. ولأن المكاشفة تُربك الحسابات ، بينما الإخفاء يمنح صانع القرار مساحة للمناورة. غير أن الدبلوماسية مهما كانت بارعة في الإخفاء لا تستطيع إلى الأبد أن تحجب ضوء الوثيقة.

لقد رأينا كيف غيّرت بعض الوثائق مجرى التاريخ.
وثائق ويكيليكس مثلا لم تفضح فقط أسرارا بل كشفت حجم التناقض بين ما يُقال علنا وما يُدار خلف الستار. وثائق أخرى عن حرب العراق أو عن اتفاقات الطاقة بين دول الشرق الأوسط أظهرت أن المصالح كانت دائما أقوى من الشعارات وأن لغة القوة كثيرا ما سبقت لغة العدالة.

ومن هنا تبرز قيمة الوعي. فحين تُفتح الوثائق ، لا يكفي أن نقرأها بعين الفضول بل بعين التحليل. لأن الوثيقة لا تروي كل شيء لكنها تُشير إلى الطريق. هي نص صامت يحتاج إلى من يفك شفراته وإلى عقل لا يبحث عن الإدانة بقدر ما يبحث عن الفهم.

إن أخطر ما تفعله الوثائق أنها تُعيد تعريف الصدق في العلاقات الدولية. لم يعد الصدق هو ما يُقال بل ما يُكتب في محاضر الاجتماعات السرية. ومن يملك قراءة الوثائق جيدا يملك فهم التاريخ من مصدره الأول قبل أن تلمسه يد التجميل أو التبرير.

وربما لهذا السبب تظل القاهرة في موقعها الاستثنائي. فهي من الدول القليلة التي تدرك قيمة الوثيقة كجزء من أمنها القومي. لا تُفرط في أسرارها ولا تبيع مواقفها في مزاد اللحظة لكنها أيضا لا تترك التاريخ بلا سجل. فالتاريخ لا يُكتب بالضجيج بل بالرصانة والحكمة.

حين تكشف الوثائق ما أخفته الدبلوماسية لا يكون الغرض فضح الماضي بل فهمه. لأن من لا يقرأ الوثائق جيدا سيعيد أخطاءها. أما من يتأملها بعين الوعي فسيدرك أن وراء كل توقيع حكاية ووراء كل اتفاق صراع وأن الحقيقة مهما تأخرت تعرف طريقها دائما إلى الضوء.

مساحة إعلانية