مساحة إعلانية
دُكان الكلام العربي زاخر بعشاقه ، ولو أبحرنا وغصنا في أعماقه نقلب الرفوف، ونفتح الخزائن، ونزيل تراكم الزمان من علي كاهل هذا الكنز الضخم ، لقرائنا العجب، ولأحجتنا إلي أعمار فوق أعمارنا ونحن نقلب ونفتش ونتوقف أمام هذا العشق الكبير للكتاب.
ولكن لابد من التوقف أمام بعض النماذج لنشد أزرنا بهذا العشق الساكن في عقول وقلوب وأرواح أجدادنا.
ونتوقف هنا مع جدنا أبوعثمان عمر بن بحر بن محبوب بن فزارة ، الملقب بـ» الجاحظ «(776- 868م)الذي يعد من أئمة الأدب العباسي ،والذي قدم للمكتبة العربية مجموعة من الكتب الرائدة منها « البيان والتبين ، المحاسن والأضداد، التربيع والتدوير ، ورسائل الجاحظ « وغيرها .
كان فقيرا يتيما مما دفعه لبيع السمك والخبز في النهار ، وفي الليل يذهب لدكاكين الوراقين ليقرأ وينهل من الكتب عشقه الساكن في أعماقه ولا يفارقه ولا يمنعه من عشقه الفقر والحاجة .
والذي كانت نهايته مأساوية علي يد عشاقه ، فقد كان جالسا بين عشاقه في مكتبته يتأمل ويقرأ ويهيم ويعشق ويغوص وينهل ،بعد أن بلغ من العمر عتيا ،وغزا جسده المرض وأصابه الوهن ، وفجأة انهالت الكتب عليه بعد أن فقدت توازنها ومن كثرتها غطته ودفنته تحتها حتي فارق الحياة ،ووجدوه ميتا تحت أنقاض عشاقه .
فذهب ضحية هذا العشق الذي أفني فيه عمره.
وهو الذي قال عن الكتاب الكثير والكثير نقطف من بستان عشقه زهرة ،يقول :» ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمَنُ من الأرض، وأكتم للسر – من صاحب السر- ، وأحفظُ للوديعة من أرباب الوديعة.
وقد أورد «ياقوت الحموي» صاحب «معجم البلدان» قولاً لأحد معاصريه يُدعي «أبي هفَّان» يدلُّ علي مدي شره الجاحظ بالقراءة، فقال فيه: «لم أر قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفي قراءته كائناً ما كان.»