مساحة إعلانية
اقتضت ظروف طارئة أن أسافر للقاهرة الأسبوع الماضي بالقطار ، ركبت من بلدي ( طحطا ) قطارا فخما يتوقف في محطات المراكز حتى يصل إلى أسيوط ، وبعدها لا يتوقف إلا في عواصم المحافظات : المنيا ، وبني سويف ثم الجيزة .
وجدت المقعد المفرد المجاور للمقعد المحجوز لي فارغا فجلست فيه ، بدأت أستكشف ماحولي فوجدت أن مقعدي الذي تركته يقع خلف رجل طوال يفوقني في الطول بمرحلة ويفوقني في الحجم بمراحل ، فقد أوتي بسطة في الكرش لا بأس بها . وعن يساره إلى جانب الشباك سيدة فضلى يبدو أنها حرمه المصون ، كانت السيدة الفضلى " تقزقز " شيئا لم أتبين ألبٌّ هو أم حمص أم فول ؟
كان المقعد المفرد الذي أويت إليه – إلى أن يأتي صاحبه - " منجعصا " إلى الخلف ، وأنا من المسالمين الذين لا يحسنون رفع الكراسي وخفضها وتنوينها بل يتكومون عليها -كما هي - إيثارا للسلامة .
وحين أويت لذلك المقعد وجدت رأسي المتكئ على الكرسي كأنه في حضن السيدة التي في المقعد المفرد الذي خلفي ، لم أنظر لوجهها حين جلست ، ولكنني حين تحرك القطار من (طحطا) ، وأرخيت أذني لها كانت تتحدث في هاتفها بصوت عال مسموع ، وتحكي عن مواقف لها وبطولات شتى في " المتابعة" التي تباشرها على المدارس الخاصة في محافظتنا . كان صوتها هادئا حنونا تتخلله ضحكات رسمية موجزة من حين لآخر ، وكان صوتها ينبئ بأنها جميلة ساحرة هادئة كصوتها هذا الذي يتدفق متصلا وكأنها لا تفكر ولا تتدبر ولا تتخير ألفاظا دون ألفاظ كما أن لهجتها " البحراوية " لا تخلو من بعض السرعة ..
تابعت معها - على مدى ثلاث أو أربع محطات - معظم إنجازاتها الحاسمة ، ومواقفها الصارمة ، وسط ضحكاتها اللازمة المتواصلة . ولكن عينيَّ كانتا تتابعان تلك السيدة الفضلى التي عن يسار الرجل وهي مازالت " تقزقز " !! ثم رفعت زجاجة ضخمة جدا من " الفانتا " الصفراء فشربت منها ما شاءت أن تشرب .
في محطة أسيوط يقف القطار وقتا طويلا فيتجاسر باعة شباب على الأرصفة فيدخلون للقطار يبيعون ما معهم من طعام أو حلوى أو مسليات من فول ولب وترمس وما شابه الترمس . ويبيع بعضهم أكياسا بها شرائح بطاطس جافة أو أكياسا بها طعام مجفف ..
همست السيدة الفضلى لبعلها الطويل الكثيف ذي الجلباب الأفرنجي الواسع والنظارة الطبية السميكة ، فهرول إلى الرصيف وعاد يحمل أكياسا تضم أكداسا فيها كثير من تلكم المأكولات .
أفرغ "سبع البرمبة " ما اشتراه من تلك الأكداس والأكياس بين يدي حرمه المصون فكانت تفتحها كيسا بعد كيس فتلتهم ما فيها وتعطي بعلها كيسا فيلتهمه وتعطي ابنهما الجالس على المقعد المجاور لي خلفهما كيسا فيلتهمه ..
عند محطة ملوى بالمنيا يكون قد مر ساعتان ونصف الساعة منذ جلست في القطار ، لم يتوقف فيها شدقا تلكم السيدة الفضلى عن الدوران وإن توقف شدقا بعلها ، من حين لآخر ، وكأنه يستريح ..
كان الاثنان الجالسان على المقعدين اللذين خلف مقعدي المجاور لي مستغرقين في الحديث بصوت لا رحمة فيه بباقي ركاب العربة ، كان صغيرهما – وهو في نحو الأربعين – يسأل ، وكبيرهما الذي لم أستطع تقدير سنه يجيب فيسرف في تفاصيل ما رآه[ من بعيد] في حرب 1948 و1956 و1967 و1973
وكانت السيدة التي خلفي قد وصلت بشكاواها إلى قداسة البابا ..
عندما وصلنا إلى المنيا ، بدا لي أن أتحرك قليلا من مقعدي الذي قضيت فيه قرابة الساعات الأربع بلا أي حركة ، فنزلت على الرصيف وتمشيت قليلا ، إلى أن أذَّن مؤذِّن القطار بزمَّارته فعدتُ للصعود ، وفوجئت بأن "سبع البرمبة " قد سبقني للنزول واشترى من محطة المنيا أكياسا جديدة ، ألقاها بين يدي زوجه التي كانت مازالت تقرقش أشياء لا أعرف كنهها ، ألقيت نظرة على الجالسة خلفي التي سحرني صوتها ، وجذبتني ضحكاتها التي ظللت أسمعها أربع ساعات ، فإذا بها كتلة ضخمة من اللحم الأبيض المتوسط ، وفي وجهها ملامح شبيهة جدا بملامح اللورد تشرشل ، مما أصابني بغير قليل من الاطرغشاش والابرغشاش .
وحاولت في بقية الرحلة أن أتفادى سماع حكاياتها عن تفتيشها التربوي على تلك المدارس المنوط بها تفتيشها . وقلت في نفسي : لعله من الأجدى أن أصغي لحكايات ذلك الذي يحكي عن الحروب من 1948 الجالس على المقعد الذي خلف مقعدي الأصلي.. كان جليسه منبهرا بحكاياته ، فقد كان يمزج ببراعة بين ما جرى في كل حرب من تلك الحروب التي عايشها ( في الإذاعة ) وماكان يفعله في ذلك اليوم مع آل بيته من معارك حول الكرنبة التي طبخوها فلم تعجبه ، وذلك اللون الذي دهنوا به البيت في أثناء غيابه للعمل بالقاهرة ..
نظرت فجأة إلى السيدة الفضلى التي لم يهدأ فكَّاها عن الدوران من طحطا إلى المنيا ، فوجدتها قد قسمت ما اشتراه بعلها من محطة المنيا عليها وعلى بعلها وأخذت تحرضه على الأكل والرجل يأكل قليلا ويتأفف قليلا فلا يجد مهربا إلا أن يقوم ويتمشى في عربات القطار لمدة ربع ساعة أو ثلث ساعة ثم يعود فيجدها مركزة كل التركيز فيما بين يديها من أكياس ، وتفتح ، من وقت لآخر ، جردلا بلاستيكيا مربعا به زجاجات المياه الغازية الكبرى جدا ، فتأخذ جرعات من تلك الميرندا الصفراء ثم تعود إلى ما هي فيه من مضغ وبلع .
السيدة التي خلفي ذات الملامح التشرشلية مازالت تقص بعض بطولاتها التفتيشية مصحوبة بإنذاراتها للمقصرين ممن تتابعهم ، وتهديدها لمديري المدارس بالويل والثبور وعظائم الأمور .
والجالس على المقعد الذي خلف مقعدي الأصلي أنهى حكاياته مع حرب 48 وبدأ يقص ما رآه وما سمعه وما قام به من بطولات – في المطاعم -خلال حرب 1956
وفجأة خطر ببالي أن أتفقد السيدة الفضلى التي لم يهدأ فكَّاها عن الدوران فوجدتها قد طلبت من زوجها إنزال شنطتها الكبيرة من على الرف ، فأنزلها المسكين وكانت تأوهاته ومجاهداته تدل على ثقل الشنطة ، ثم وضعها على حجر زوجته ففتحتها وأخرجت منها كيسا ضخما احتفظت به ، وطلبت منه إعادتها فوق الرف فأعادها المسكين .
ولما فتحت كيسها ظهر أن به سندوتشات سبق تحضيرها ، لكنها كانت تفتح كل رغيف ، وتضع به شيئا طويلا في حجم السحلية السميكة ، كان فيما يبدو محمرا مشويا أو مطبوخا ، لكني لم أتبين ما عسى أن يكون ... جهزت من هذه السندوتشات ما قد يزيد عن العشرين ، وجعلت تأكل منها بشراسة شرسة وعنفوانية عنيفة ، ومن حين لآخر تهب بعلها واحدا أو اثنين وتزغر له فينكب عليهما صاغرا .. وحاولت أن تعطي ابنها فصرخ ورفض بشدة فاكتفت بأن أعطته واحدا فقط ..
واقتربنا من محطة بني سويف ... وهي مازالت تأكل
.. في محطة بني سويف ، كنت قد بلغت آخر ما يمكن أن يبلغه مسافر من الصبر على ما حوله من ضجيج وأكل متواصل ، وحكايات لا رأس لها ولا ذَنَب ، فنزلت إلى الرصيف فاشتريت ثلاث بسكوتات صغيرات وكان معي من محطة سوهاج زجاجات ماء وعصائر ، تحرك القطار والبائع يعطيني الباقي ، فهرولت مسرعا وقفزت في باب العربية ففوجئت بما لم أتوقع قط : كان ذلك الرجل الطيب بعل السيدة الأكول قد سبقني واشترى أكداسا جديدة من مطاعم شتى ومقرقشات شتى !
أويت إلى مقعدي وكان أول ما فعلت أن نظرتُ إلى تلك السيدة الفضلى فوجدتها تقزقز لبًّا أو تقرش فولاً .. ووضع البعل ما اشتراه بين يديها ، فوضعته أسفل منها وواصلت قزقزتها للب أو قرشها للفول في حدود نصف ساعة ..وهي تهمس لبعلها بين الحين والحين فيقوم من مكانه ليطلب لها شايا من بائع الشاي .
لما وجدتها قد أوغلت في قرقشة الفول ، أعرضت عنها ، وأرخيت أذنيَّ لذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) كان يضحك بقسوة وهو يحكي لضحيته المستسلم له بجواره عن آرائه الشخصية في المرأة من خلال رحلة عمره الطويلة ، فكان مما قال : إن النساء في مصر ثلاثة أصناف لا رباع لهن ، أول صنف منهن أولئك النسوة الرغايات اللواتي يتحدثن كثيرا فيسرفن في الحديث حتى لا يجد أزواجهن مهربا إلا النزوع إلى المقاهي ولعب النرد مع الأصدقاء حتى مطلع الفجر ، والصنف الثاني أولئك النسوة الصامتات الحزينات اللواتي لا يتكلمن أبدا مهما يكن الزوج ودودا لطيفا مجاملا كريما ، فلا يجد أولئك الأزواج المهجورون مهربا إلا النزوع إلى المقاهي ولعب النرد مع الأصدقاء حتى مطلع الفجر ، والصنف الثالث لم أتبينه من حديثه ، فقد جاء موكب الكمسارية والمفتشون فأوسعونا تفتيشا وحديثا ..
وغادر الكمسارية والمفتشون بعد أداء عملهم ، وأرخيت أذني أتابع بقية أنواع الحريم ، ففوجئت بأن الرجل قد قام من مكانه ولعله راح يقضي حاجته ـ أو يشعل سيجارته ، أو يحادث زوجته . فاستسلمت راغما مرغما للسيدة التي خلفي وكانت تقول لمن تحادثه : " ....أنا قلت له مستحيييييل أوافق على كده ، ده تهريج ، روح اشتكي للي يعجبك : القسيس أو القمص أو حتى روح للبابا نفسه " ثم ضحكت ضحكة بشعة فيها تشفٍّ عنيف ، تخالف كل ضحكاتها الرقيقات السابقات اللواتي جذبن قلبي إليها قبل أن أرى سحنتها ..
لم يكن أمامي مفر من العودة لمتابعة السيدة الفضلى التي كانت قد انتهت من قزقزتها للب أو قرشها للفول ، وفتحت الكيس الذي اشتراه بعلها من محطة بني سويف فاستخرجت منه مغلفات غريبة لا عهد لي بها ، كانت تستخرج من تلك المغلفات ما يشبه الفطير فتقضم منه بشراسة وشراهة من لم يذق طعما منذ ربع قرن ، مع أنها – ويشهد الله – لم تتوقف عن القضم والهضم والرضم [ لا أحد يسألني عن معنى " الرضم " هذه ] منذ رأيتها في محطة طحطا حتى الآن ..
كنت أفكر بجدية أن أسأل السيدة التي خلفي عما فعل ذلك المذنب الذي نصحته بأن يشكوها – إن أراد- إلى قداسة البابا شخصيا .. وبالفعل نظرت إليها وهي غارقة في مكالمتها فرأيت في ملامحها ما كبحني وأخرسني ..
غادرنا محطة بني سويف منذ نصف ساعة ، وقد استسلم بعضهم للنوم ، ونشط آخرون ممن يتهيأون للنزول في محطة الجيزة . مازالت هواتفي صامتة أو مغلقة كعادتها في أثناء السفر ، ولكن هاتفا داخليا دعاني للنظر في أحدها فوجدت رسالة من ابن أخي الذي ينتظرني في محطة رمسيس ، فلما كلمته وعرف أنني مازلت في بني سويف ، استعبط ونصحني بأن أنزل في محطة الجيزة لأستقل مترو الأنفاق إلى بيتي القريب من محطة كوبري القبة ..وبالطبع في مثل هذه الحالات لا أملك إلا الاستسلام ، فأنا كأبي العلاء وطاها حسين رحمهما الله : " مستطيعٌ بغيره " !
عاد ذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) إلى مقعده ، وتسلم آذان جليسه في المقعد ، وسعدت جدا حين تبين من حوارهما أنه مازال يعدد أصناف النساء اللواتي يعرفهن ، وكنت شغوفا بأن أسمع منه الصنف الثالث من أصنافهن ، الذي توقف عنده حين هجم الكمسارية والمفتشون ومساعدوهم ، قال الحكيم : إن الصنف الثالث من الحريم يمثل نوعا غريبا لا يحسن الرغي المتواصل ، ولا يؤثر الصمت الخامل ، ولكنه يضم فئة من الحريم الكسولات اللواتي لا يعنيهن أن يأكل أزواجهن أو يصوموا ، ولا يشغلهن أن يلبس أطفالهن أغلى الثباب أو أرخصها ، ولا يهمهن زيارات الأقارب أو انقطاعها ، بل كل ما يشغلهن عبادة تلك الشاشات ، ومتابعة ما تعرضه من أفلام ومسلسلات ، فإذا طلب منهن أحد طعاما أو شرابا تأففن أشد التأفف ـ وأشرن إلى المطبخ ليأكل أو يشرب ما يجده من طعام أو شراب ، فإن لم يجد شيئا فلا حرج عليه في أن يلجأ لمطعم قريب فيأكل ما أحب أن يأكل ، ويشرب ما شاء أن يشرب .
كان الرجل يحكي عن هذا الصنف من النساء وبين حروفه مرارة تلوح حينا وتتوارى حينا ، لكنه تشير إلى ما يتغنى به بعض المتصوفة حين يقولون " من ذاق عرف " !! وكأن المسكين ذاق أشد الذوق ، حتى عرف أدق معرفة .
كنت أستمع لحديثه هذا الذي استفاض فيه بغير حماس ، وكدت أطلب منه أن يعود إلى ذكرياته مع الحروب التي عايشها ( مع الراديو) فقد كانت أكثر جاذبية وتشويقا ..لكنني خجلت أن أطلب منه ذلك على غير معرفة بيننا .. فانصرفت عنه لأتابع السيدة الفضلى التي كانت ما تزال تفتح كيسا بعد كيس من تلك الأكياس التي اشتراها لها بعلها من محطة بني سويف ، فتلقف ما في كل كيس في جوفها كأنها لم تذق طعاما من شهور ، وهي التي لم يتوقف شدقاها عن الدوران منذ خمس ساعات أو أكثر .. في داخل نفسي : كنت أحسدها لهذه القدرة الغريبة على الهضم والقضم المتواصلين بشراسة وإصرار ..وكم كنت أتمنى لو كان معي مرافق عصري يحسن التعرف إلى مسميات تلك المهضومات والمقضومات والمقرقشات التي يجيئها بها بعلها في كل محطة ..
و
... بدأت بشائر محافظة الجيزة تظهر ، فقد تحرك بعض الركاب هنا وهناك يستنزلون حقائبهم الكبرى من فوق الأرفف ويتفقدونها ، أو يضعونها في طرقات العربة أو يتحركون بها نحو أبواب العربات .
بدأت أشعر بقلق شديد حين اقتربت محطة الجيزة ، فما تزال تلك السيدة تأكل بشراسة ، وترغم زوجها البريئ ذا النظارة الطبية على الأكل ، ومازالت السيدة (الخازوقة ) تضحك وهي تقص على مُحادِثاتها أو مُحادِثيها في هاتفها بطولاتها في غشيان المدارس والتنكيل بالمخالفين فيها ، ومازال العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) يواصل تحليلاته لشخصية المرأة ، وتقسيماته المتفرعة لأنواع النساء وطبائعهن ..
بدأت أشعر بقلق شديد ..أأنزل في محطة الجيزة وأترك هذا المهرجان - الذي عشت فيها أكثر من سبع ساعات – محتدما ؟
فهو لن يتوقف إلا في محطة رمسيس بالقاهرة ، ولكنني مضطر لأن أعمل بنصيحة ابن أخي فأنزل من القطار في محطة الجيزة ، و" أتمتَّر " في مترو الأنفاق من الجيزة إلى بيتي في محطة كوبري القبة ..توفيرا للوقت الذي " يتدلع " فيه القطار بين الجيزة والقاهرة ..
ولكن السؤال الذي سيطر على ذهني ساعتئذ : كيف ستتوقف تلك السيدة الأكول عن التهام أرغفتها وهي تساعد زوجها في إنزال كل " تراثها " الكبير من تلك الحقائب الكبيرة والصغيرة والمتوسطة ؟
ساعة فكرت في هذا السؤال نظرت ناحيتها فوجدتها قد فتحت جردلا بلاستيكيا مربعا في حجم نصف كرسي القطار ، واستخرجت منه زجاجة الشويبس البرتقالي الذي كانت تتعاطاه من حين لآخر ، ورفعت تلك الزجاجة الطويلة ( ذات اللترين )
لأعلى وظلت تشرب منها حتى أفرغتها تماما .. وحين وضعتها في جردلها رأيت بجوارها ثلاثا أُخَرَ فارغات ، فلا أدري أشربتهن وحدها أم شاركها زوجها وابنها ؟ ثم ما أهمية أن تحضر معها هذا الجردل البلاستيكي الكبير لتحمل فيه تلك الزجاجات الكبار الفوارغ ؟ وهل ستغشى بهذا الجردل بيوت أقارب لها بالقاهرة هكذا فارغا ؟ أم أن لها بيتا يؤويها ؟! وما عسى أن يكون في ذلك البيت من مخلفات سفرياتها السابقة ؟
وفيما أنا مستغرق في تساؤلاتي حول تلكم السيدة الفضلى ، فوجئت بذلك العجوز المناضل الذي تابع تاريخ الحروب المصرية ( من الراديو ) يضحك ضحكا متواصلا عنيفا وهو يقص على ضحيته / جاره بعض مغامراته أيام كان شابا فتيًّا ممن يغامرون ، وكيف تلقى صفعة شديدة ما تزال – كما قال – ساخنة على وجهه ، من سيدة فضلى عاكسها في باصٍ قاهري ، أو لعله تحرش بها ، دمعت لها عيناه وانغلقتا ثم انفتحتا ليكتشف أن تلك السيدة التي وقف خلفها في الباص القاهري لم تكن إلا شابا من أولئك " الخنافس " الذين كانوا يطيلون شعورهم ويغذونها بما تغذي به النسوة شعورهن من دهانات ..!
ويحكي الرجل الفاضل كيف نزل فورا من ذلك الباص مأزوما ، مذموما، مقهورا ، مكسوفا فأوى إلى مسجد قريب على الطريق فاغتسل واستغفر وصلى ركعتين ثم نام ، فرأي فيما يرى النائم أن امرأة أبيه الثانية قد جاءته في المنام بمركوب قديم ومازالت تضربه به بين فواصل من الصفع واللكم والبصق والقرص ، وهو يصرخ حتى أيقظ بصراخه من ينامون جنبه ، ليكتشف أنه ينام في بيته بجوار أسرته ، وليس في مسجد ، ثم تأسى الرجل حزينا على قفل المساجد حاليا أمام أبناء السبيل من المسافرين .
اهتز مقعدي فجأة فظننت أن السيدة الفضلى الجالسة خلفي تهم بالنزول مثلي في محطة الجيزة ، ولكن ظني لم يكن صحيحا ، فقد كانت تحاول فقط أن تضع ساقا على ساق لتستكمل قصتها مع ذلك المعلم " غير المحترم " - كما وصفته – الذي وصف لها عملها التفقدي الضخم الذي تفاجئ به المدارس بأنه " هجص " لا طائل من ورائه ، لأنه يهتم بنظافة دورات المياه ، ولا يهتم بتعليم التلاميذ كيف يكتبون الهمزة التي في وسط الكلمة ..
سعدت جدا بهذا القسط من كلامها فأنا ممن توجعهم كتابة الهمزة حين أصحح "كراريس" تلاميذي ، ولكن قطع عني متابعتها تلك الصرخة العنترية التي هزتني هزا ولم أتبين مصدرها بوضوح ...
......
وصل القطار إلى محطة الجيزة وتوقف عليها ، قمت من مقعدي لأتوجه للنزول ، نظرت للسيدة الفضلى ..كانت مازالت تأكل بشراسة ، ونظرت للتي خلفي ، كانت ماتزال تحكي بطولاتها مع ضحاياها ، ونظرت لبطل الحروب ( الإذاعية) ، كان ما يزال يحلل نوعيات النساء اللواتي أحبهن أو كرههن ، نظرت لبعل السيدة الأكول فلم أتبن ملامح عينيه من شدة كثافة نظارته .. نزلت من القطار وفي عقلي أسئلة كثيرة أهمها : كيف يمكن لسيدة أن تأكل وتشرب وتقزقز لمدة ثماني ساعات متواصلات بلا أي فاصل ؟ وكيف يمكن لموجهة " تربوية " أن تحكي نحو ذلك الوقت عن بطولاتها مع ضحاياها من المدارس التي تتابعها ؟
توجهت إلى محطة مترو الأنفاق كما أرشدني المرشدون ، وعندما وقفت أمام شباك التذاكر ، ومددت للرجل ورقة بخمسة جنيهات وطلبت تذكرة إلى محطة كوبري القبة ، نظر إليَّ الرجل نظرة مريبة ، ودقق في ملامحي كما يدقق المحققون في مستندات مشكوك فيها ، ثم ازورت عيناه ، ودقق في النظر إلي ثم سألني بأبوية حانية : حضرتك وصلت ال 65 سنة ؟ قلت له متوجسا : نعم أنا فوق الخامسة والستين فتبسم في حنو أبوي بالغ ، وكرم حكومي سابغ ، وأعاد لي جنيها حديديا – مع التذكرة – وقال : من حق حضرتك ( نصف تذكرة) مادمت فوق الخامسة والستين !! قلت له : من قال هذا ؟ قال : هذا قرار الحكومة .
كان اسم ( الحكومة ) كافيا ، مع قروي مثلي ، لاصطكاك الركبتين والفكين واختلاج العينين ، لكن هذا كله لم يمنع سعادتي بهذا الجنيه الحديدي الذي أعادته الحكومة لي مشكورة .
لم يكن أمام الشباك أحد غيري ، فوجدتها فرصة للحوار مع الحكومة ممثلة في ابنها ذلك الشبَّاكي الأصيل ، فسألته ببراءة قروي موغل في التشكك والحذر : حضرتك تعرفها ؟ هز رأسه مستغربا وسألني : أعرف من ؟ قلت : الحكومة فتبسم ضاحكا وقال : نعم أعرفها ..أتريد منها شيئا ؟ قلت : لنفسي : لا ، لكن أرجوك أبلغها بأن أمام القصر الجمهوري بالقبة [ الذي أسكن بجواره ] عدد كبير من الرجال والنساء والأطفال ، يبيتون تحت الكباري العلوية ويعانون في الشتاء القارس من لطم البرد ، فضلا عن الجوع ، والخوف من الكلاب الضالة ، ومن البشر المجرمين . أوحتْ لي هزة رأسه بأن الرجل ظنني من المجانين ! وقد أشار لي إلى الرصيف بما معناه : اجرِ.. يا أستاذ ، المترو وصل .
لحقت بالمترو ، وما كدت أقف وسط زحامه حتى انبرى فتى مهذب يجلس بجوار سيدتين لعل إحداهما أمه ، فأخذ بيدي وأجلسني أمامه مشكورا فشكرته ودعوت له وبدأت أتأمل من هم حولي...
ويا ليتني ما نظرت ...!!!