مساحة إعلانية
لم يكتب الله للنحاة ما كتب لأهل الأدب والبلاغة من الشهرة وذيوع الصيت ، ولم يُعرف عن النحاة ما عرف عن الأدباء والشعراء من خفة الظل ، ولطف المعشر ، وظرف المنادمة.
فالنحاة - كما تقدمهم إلينا كتب التراث - متحذلقون ، متشدقون بغرائب الألفاظ حتى ولو كانوا في مواقف لا تسمح بالتشدق ، ولا تحتمل الاستظراف ممن ليس له بأهل .
يحكون أن نحوياً سقط في بئر ، فمر رجل بالبئر فصاح النحوي لينقذه الرجل ، فلما أجابه الرجل ، قال له النحوي : اطلب لي حبلاً دقيقاً ن وشُدَّني شدَّاً وثيقاً ، واجذبني جذباً رقيقاً ، فقال الرجل الذي يبدو أنه كان عامياً لا يحسن شيئاً من اللغة : امرأتي طالق إنْ أخرجتُك !!!
ويحكي لنا الشاعر المصري المجهول شرف بن أسد (ت 738هـ) حكاية طريفة عن نحوي مر بإسكافي يبيع النعال فوقف ببابه يريد أن يشتري نعلاً فقال النحوي للإسكافي :
“ أبيتَ اللعن ، واللعنُ يأباك ، رحم الله أمَّك وأباك ، وهذه تحية العرب في الجاهلية قبل الإسلام ، ولكن عليك السِّلْم والسَّلَمُ والسَّلام ، ومثلك من يُعز ويُحترمْ ويُكْرم ويُحْتَشَم ، إنني قرأتُ القرآن و " التيسير " و " العنوان " و " المقامات الحريرية " و " والدرة الألفية "
و " كشاف الزمخشري " و " تاريخ الطبري " ، وشرحت اللغة مع العربية على سيبويه ، ونفطويه، والحسن بن خالويه ، والقاسم بن كُمَيْل ، والنضر بن شميل ، وقد دعتني الضرورة إليك ، وتمثلت بين يديك ، لعلك تتحفني من بعض حكمتك ، وحسن صنعتك ، بنعل يقيني الحر ، ويدفع عني الشر ، وأعرب لك عن اسمه حقيقياً ، لأتخذك بذلك رفيقاً ، ففيه لغات مختلفة ، على لسان الجمهور مؤتلفة : ففي الناس من كناه بـ " المَدَاس " ، وفي عامة الأمم من لقبه بـ" القَدَم" ، وأهل شهرنوزة سموه بـ " الساموزة " . وإني أخاطبك بلغات هؤلاء القوم ، ولا إثم عليَّ في ذلك ولا لوم ، والثالثة بي أولى ، وأسألك أيها المولى أن تتحفني بساموزة أنعم من الموزة ، أقوى من الصوان ، وأطول عمراً من الزمان ، خالية البواشي ، مطبقة الحواشي ، لا يتغير على وشيها ،ولا يروعني مشيها ، لا تنقلب إن وَطِئْتُ بها جُروفاً ، و لا تنفلتُ إن طحتُ بها مكاناً مخسوفاً ، ولا تلتوق من أجلي ، ولا يؤلمها ثقلي ولا تتمزق من رجلي ، ولا تتعوج ، ولا تلقوج ولا تنبج ، ولا تنفلج ، ولا تقب تحت الرجل ولا تلصق بخبز الفجل ، ظاهرها كالزعفران ، وباطنها كشقائق النعمان ، أخف من ريش الطير ، شديدة البأس على السير ، طويلة الكعاب ، عالية الأجناب ، لا يلحق بها التراب ، ولا يغرقها ماء السحاب ، تصر صرير الباب ، وتلمع كالسراب ، وأديمها من غير جراب ، جلدها من خالص جلود الماعز ، ما لبسها أحد إلا افتخر بها وعز ، مخروزة كخرز الخرنفوش ، وهي أخف من المنقوش ، مسمرة بالحديد ممنطقة ، ثابتة في الأرض المزلقة ، نعلها من جلد الأفيلة لا الحمير الفطير ، وتكون بالنرر الحقير” .
فلما أمسك النحوي من كلامه ، وثب الإسكافي على أقدامه ، وتمشى وتبختر وأطرق ساعة وتفكر وتشدد وتشمر ، وتحرج وتنمر ، ودخل حانوته وخرج ، وقد داخله الحنق والحرج ، فقال له النحوي : جئت بما طلبت ، فقال : لا بل بجواب ما قلت ، فقال : قل وأوجز ، وسجع ورجز ، فقال :
أخبرك أيها النحوي ، أن الشرسا يحزوي ، شطبطبات المتقرل ، والمتقبعقب لما قرب من قرى قوق القرنقنقق ، طرق رزقنا ، شراسيف قصر القشتبع من جانب الشرشنكل والديوك تصهلل ، كنهيق الرقايق الصولجانات ، والحرفرف الفرتاح ، يبيض القرقنطق والزعر برجوا حلبنبوا يا حيزا ، من الطير ، بحج بجمند كبشمردل ، خاط الركبنبو ، شاع الجبربر ، بجفر الرتاح ، ابن يوشاخ ، على لوى شمندخ ، بلسانتن القراوق .
مازكلوخ ، إنك أكيت أرس برام ، المسلطنح بالشمردلند مخلوط ، والزيبق بحبال الشمس مربوط علعل بشعلعل ، مات الكركندوش أدعوك في الوليمة ، يا تيس يا حمار يا بهيمة ، أعيذك بالرحواح ، وأبخرك بحصى لبان المستراح ، وأوفيك ، وأوقيك ، وأرقيك ، برقوات مرقات ، برقوات مرقات قرقوات البطون ، لتخلص من داء البرسام والجنون .
ونزل من دكانه ، مستغيثاً بجيرانه ، وقبض لحية النحوي بكفيه ، وخنقه بإصبعيه ، حتى خرّ مغشياً عليه ، وبربر في وجهه وزمجر ، ونأى بجانبه واستكبر ، وشخر ونخر وتقدم وتأخر فقال النحوي : الله أكبر الله أكبر ، ويحك أنت تجننت ؟ فقال له : بل أنت تخرفت .
وهكذا انتهت قصة النحوي الذي أراد أن يشتري نعلاً من إسكافي لا شأن له باللغة فانتهي ذلك به إلى قسم الشرطة ، وقد حكى لنا هذه الحكاية ابن شاكر الكتبي في ذوات الوفيات (2/102) وابت تغري بردي في المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي (6/226) والذي تتبع نوادر النحاة في كتب التراث يجد من أمثالها الكثير والكثير ولكن عليه أن يحتاط لنفسه بكثير من الصبر والأناة حتى لايصاب هو بما أصيب به النحاة من حب الغريب من اللفظ حتى لا تتأثر حياته الزوجية في عصرنا هذا الذي يتميز بالقلق ونفاد الصبر .
ملحوظة : الكلمات الغريبة في عبارات الإسكافي لا أصل لها في اللغة فهي ليست ذات معنى وإنما هي تعبير عن ضيقه بحذلقة النحوي .