مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

نقطة رجوع ... بقلم إيمان العطيفي

2025-11-13 11:45 PM - 
نقطة رجوع ... بقلم إيمان العطيفي
صورة تعبيرية
منبر

(من إمتى بيفرق لنا مين راح ومين استنى؟

اللي يحبنا يطلب ودنا ويضحّي عشانا…)

آه وآه، دارت عجلات الزمن سريعًا، أثقلت عجيزتها إيقاع رقصها. رحم الله زمانًا ولى، كانت للموسيقى إيقاعا مجنونا يعبث بكل ما يمر فوقه، من خصلات شعرها المموج، إلى هضاب صدرها الرجّاج، من خاصرة تفتك بحبال العقل الناظر إليها، إلى باقى الجسد المرمري، آه يا زمن… عقود مرت وانطوى بريقها، لمحت المرآة المعلقة على الجدار المقابل، سعت إليها دون انقطاع لوصلة الرقص التي ضمّت أوصالها، ظهرت تجاعيد يصعب إخفاؤها، اسمرار طفيف تحت العيون، وشحوب يخفت من بريق الوجه الذي كان يسطع سابقًا. وقفت أمام المرآة، ومع ذلك لم يتوقف جسدها عن الاهتزاز والتمايل على أنغام راغب علامة التي تتذكرها جيدًا — كانت تعشق أغانيه في المراهقة، قبل أن تُكبّلها القيود.

"أسف حبيبتي الوقت فات" 

 تتلو الكلمات في رأسها كما كانت تغنيها ذات ليلة، كم تمنت أن تسافر عبر الزمان لمرة أخيرة، لا تكرار لها! تتخيّل نفسها تعتلي المسرح في ليلة رأس سنة، ترقص أمامه لا يفصلها عنه أكثر من سنتيمترات، يمدّ يده تلمس يدها محاولًا تقليل المسافة… ثم تنطفئ الأضواء ويعلو صوت العدّ التنازلي من خمسة إلى صفر، وتبدأ الاندماجات المثيرة.

طنّت في أذنها أغنية معدومة فوق مقصلة الحياة، مدفونة في قبر الزمن المجهول: "الدنيا ريشة في هوا ،طيرا بغير جناحين ،احنا النهاردة سوا ،وبكره هنكون فين "  فهزّت رأسها، فتطاير شعرها معلنةً رفضها.

 لم تعد ترغب في أن يكونا "سوا"، لن تقبل العودة إليه مرة أخرى، أعطته كل شيء, الحب، الجاه، الثقافة، حياة أرستقراطية لم يحلم بها، جعلته فارسها وأهدته جوادًا أبيض يشقّ الريح شقًا… وهو تفنّن في هدمها.

بدأ بغلق فضائها شبرًا فشبر، حرّم عليها الخروج بلا إذنه، لم يحتمل أن يراها خارج باب المنزل، راجت الأحاديث بين أصدقاء الحياة وزملاء العمل، وظنّت في بادئ الأمر أن ذلك حبٌّ تغار منه الحماسة. تدرّج الأمر إلى تحكم كامل، تحجيم ملابسها، مراقبة ما تفعل، اقتطاع حرّياتها اليومية. اختطف الهاتف من يدها على إثر مكالمة طويلة مع أمها تجاوزت الخمسة عشر دقيقة، أحكم غلق الباب الخارجي خوفًا — بحسب قوله — من اللصوص والمتطفّلين،  جمع أدوات مكياجها من على التسريحة وخباها في دولاب مغلق، أطفأ جهاز الـCD — مهربها الوحيد من التعاسة  المقيمة قسرا— كأنما يدفن سلامتها النفسية.

لم يقف عند هذا الحد، رأى قراءتها وشغفها بالسفر عبر صفحات الكتب مرضًا يستوجب العلاج، فأنشأ في قلبها فراغًا أعمق من بحر الظلمات، أحرق مكتبتها بكل ما فيها من كنوز. أصبحت سجينة رثة ليس لها تضاريس إنسانية.

في ليلةٍ ما، بينما أصابته نوبة نعاس، تسلّلت إلى هاتفه وسرقته لتتواصل بحذر مع والدها، اعتذرت بعينين دامعتين عن سوء اختيارها، وطلبت النجدة.

ارتفعت أنشودة راغب فتحرّق الصمت وتقطع ستر الذل:

"اللي غايب ملهوش نايب ،راح حبيب يجي غيره حبايب"

 وصار الصوت مثل مخرز في قلب المدينة.

 

 

مساحة إعلانية