مساحة إعلانية
كمثل كثير من الأشياء أو الناس أو حتي القيم التي لا نحس بقيمتها وأهميتها إلا بعد أن تفارقنا أو نفارقها، هكذا هو الوطن؛ يستتر حبه في القلب حتي نبتعد عنه بسفر أو هجرة إلي بلاد أخرى، فيأخذنا ذلك الحنين الجارف إليه، وندرك أنه المأوي والسكن والأهل والأحباء والأصدقاء والذكريات التي لا تُنسى، والأمن والأمان، وثقافتنا وتاريخنا الذي نعتز به، وتقاليد تربينا عليها وكونت تفكيرنا وشخصيتنا. فالوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل الذي نصبو إليه، وبذلك يكون الوطن هو كل شيء في حياتنا، فإذا فقدناه فقدنا معه معني الحياة ذاتها.
ومصر وطن جميل بعمقه الحضاري الذي يمتد عبر التاريخ، وبنيله الذي يسري في قلب الأرض خضرةً ونماءً ودفئًا يحتضن أهله ومحبيه. وحب مصر هو حب جارف يظهر في كتب الأدباء والمؤرخين والمفكرين والشعراء، وهو ما عبر عنه شاعر مصر الراحل الكبير صلاح جاهين في قصيدته “علي اسم مصر”، إذ نجده يقول:
عـلي إسـم مصـر التـاريـخ يقدر يقول ما شاء
أنـا مصـر عنـدي أحـب وأجـمـل الأشـياء
بـاحبـها وهـي مالـكة الأرض شـرق وغـرب
وبـاحـبها وهـي مـرمـيـة جـريحـة حـرب
فحب الوطن لا يقاس بمصلحة شخصية ننالها، بل هو حكمة: أن الوطن هو الكرامة والقيمة، إذا فُقدت فقدنا معها أجمل ما فينا. فكثيرًا ما آلمتني تلك المشاهد التي أري فيها عائلات من كبار وأطفال في مخيمات لاجئين أو غارقين في عمق المحيطات، ليس لشيء سوي فقدانهم لأوطانهم التي مزقتها الصراعات والحروب والفوضى.
وهناك سر جعل مصر مطمعًا عبر التاريخ لقوي وممالك وإمبراطوريات حكمت العالم. وذلك السر حيَّر المؤرخين: هل هو في موقع مصر الجغرافي؟ أم في غناها بالثروات الطبيعية؟ أم بتاريخها العريق؟ أم كما قال المؤرخ الإغريقي القديم “هيرودوت”: مصر هبة النيل والمصريين. فقد قامت في مصر حضارة قديمة أبهرت العالم بأسرارها التي لم يُكتشف الكثير منها حتي الآن، وقدمت للعالم في كل العصور نموذجًا للتعايش والتسامح بين عناصرها المختلفة، وأوقفت كل محاولات العبث بأمنها وتماسكها في كل الأزمنة، ووقع في حبها كل من زارها من كل البلاد، حتي إن مصر أصبحت موطنًا لهم.
إن سر مصر – في رأيي – هو كود ما علي جينات جميع المصريين يجعلنا نواجه الصعب ونقف يدًا واحدة أمام كل محاولات النيل من وطننا، ونضرب المثل للعالم في أوقات يظن فيها البعض أن مصر ستسقط، فإذا بها تتقدم الصفوف وتنهض من جديد. فتحيا مصر ويحيا معها هذا الشعب الأصيل.