مساحة إعلانية
في زمن تتقاطع فيه الأصوات وتتزاحم فيه الحكايات لم تعد منصات التواصل مجرد تطبيقات على هواتفنا. لقد تحولت إلى ساحات نفوذ ، وإلى ميادين تصاغ فيها القناعات وتشن عبرها المعارك ويُصنع فيها مجد لحظة وخراب في لحظة أخرى. لم تعد تلك المنصّات بريئة كما تظاهر أصحابها في البداية بل صارت قوة تتجاوز حدود الإعلام التقليدي تخترق الخصوصيات وتعيد تشكيل وعي الأجيال ، وتختبر قدرة الإنسان على الصمود أمام تيار لا يرحم من الصور والآراء والانفعالات.
لقد خلق العالم الرقمي مساحة واسعة للتعبير الحر ، نعم… لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة:
هل ما نحياه هو حرية حقا أم أننا أمام مقصلة جديدة تُسقط الرؤوس بضغطة زر؟
حرية التعبير… بين الوهْم والواقع
منصّات التواصل منحت الجميع حق الكلام بلا قيود موظف بسيط يستطيع أن يناقش خبيرا دوليا وطالب جامعي يمكنه أن يفرض قضيته على الرأي العام في دقائق. هذا الانفتاح كان حلما للبشرية في عقود ماضية لكنه اليوم تحوّل إلى سيف ذي حدّين فمع الحرية التي نالها الجميع ضاع التمييز بين المعلومة والرأي وبين الحقيقة والافتراء.
لم يعد الأمر مقتصرا على نشر صورة أو مشاركة فكرة ، بل أصبح فضاء يتشكل فيه الوعي الجمعي وتحرك من خلاله الجماهير وتدار عبره الأزمات والحروب النفسية. وفي كل هذا الصخب يقف الإنسان العادي في وسط العاصفة يبحث عن الحقيقة وسط ركام من الانفعالات.
المقصلة الرقمية: اغتيال السمعة بضغطة واحدة
كم من شخصٍ تحوّلت حياته في لحظة بسبب منشورٍ مجهول أو مقطع مُقتطع؟
كم من أسرة دفعت ثمن خبر كاذب أو شائعة انتشرت كالنار في الهشيم؟
هذه ليست أسئلة بل حقائق تُكتب كل يوم بأحرف من ألم.
في الماضي كان التشهير يحتاج جريدة أو منبرا إعلاميا أما الآن فربما طفل صغير أو حساب مجهول قادر على تدمير حياة كاملة دون أن يَعرف أحد خلفه من يقف. لقد أصبحت السمعة – وهي أغلى ما يملك الإنسان – معلّقة في فضاء مفتوح يمكن أن تتناثر شظاياها في ثوان وأن تتحول الأكاذيب إلى حقيقة إذا أعادت نشرها آلاف الحسابات.
إنها مقصلة معاصرة لا تصدر صوتا لكنها تُنهي مواقف وتنسف أرزاقا وتكسّر النفوس.
ورغم ذلك لا تجد مذنبا واضحا ولا قاضيا ولا قانونا يواكب سرعة الكارثة.
جيل يعيش داخل الشاشة… وخارج الحياة
أخطر ما صنعته هذه المنصّات ليس التشهير فقط بل خلق جيل كامل يعيش لحظاته الحقيقية من خلال صورة ويقيس قيمته بعدد الإعجابات والمشاهدات.
جيل يتعلم الحب من مقاطع قصيرة والصداقة من دردشة عابرةوالقيم من تريندات سريعة.
لقد سُرقت براءة أطفال وضاعت ملامح المراهقين في سباق المقارنة وتحولت النفوس إلى متعطشة للتفاعل حتى صارت الحياة الحقيقية أقل سحرا من العالم الافتراضي.
إننا أمام خطر صامت يلتهم الثقة بالنفس ويصنع هشاشة داخلية لا تُرى بالعين المجردة لكنها تظهر في لحظة ضعف أو فشل أو إحباط.
الإعلام الجديد… مسؤولية أم فوضى؟
الإعلام الآن لم يعد مقصورا على المحترفين كل شخص يحمل هاتفا هو مؤسسة إعلامية كاملة.
لكن أين المسؤولية؟
ومن الذي يضع الضوابط؟
وكيف نحمي المجتمع من بلاغات كاذبة ، وادعاءات بلا دليل ومن حملات تشويه تعمل كجيوش مدرّبة؟
الحروب الرقمية اليوم أشد تأثيرا من السلاح التقليدي كلمة واحدة قد تُشعل فتنة وصورة مُضلّلة قد تغير رأيا عاما وفيديو مفبرك يستطيع أن يضع دولة كاملة في مواجهة العالم.
إننا أمام مشهد يحتاج إلى قوانين صارمة ، ولكن قبل القوانين يحتاج إلى وعي إنساني وأخلاقي يعيد ضبط البوصلة.
هل يمكن أن نستعيد المنبر؟
الإجابة: نعم… إذا أردنا.
إن استعادة المنبر الحر تبدأ حين يدرك الإنسان أن التكنولوجيا وسيلة لا غاية، وأن المنصات تقوى بوعينا وتضعف بتهوّرنا.
حين نفهم أن الإعجاب لا يعني القيمة وأن الانتشار لا يعني الحقيقة وأن الصوت الأعلى ليس بالضرورة هو الأكثر صدقا.
يمكن لهذه المنصّات أن تكون منبرًا للتنوير وأن تتحول إلى ساحات لحماية القيم ونشر الوعي إذا امتلكنا شجاعة الفرز بين الحقيقي والمصطنع بين الفكر والضوضاء.
وفي الأخير فإن منصّات التواصل ليست خيرا مطلقا ولا شرا خالصا.
إنها مرآةٌ تُبرز ما بداخلنا.
فإن كان فينا نور… ستُضيء
وإن كان فينا ظلام… ستبتلعنا.
ويبقى السؤال مفتوحا…
هل نريد أن نكون أصحاب منبر حر ، أم سجناء في مقصلة رقمية صنعناها بأيدينا؟
إن القرار ليس في يد التكنولوجيا… بل في يد الإنسان.