مساحة إعلانية
في مساءٍ شتوي يقطر هدوءًا، جلس محمد حسنين هيكل أمام مكتب يشيع بعبق الورق والطباشير، مكتب يخصّ الرجل الذي أعاد رسم الكون بمعادلة واحدة … الرجل الذي أزاح الستار عن زمنٍ جديد: ألبرت أينشتاين.
لم يكن اللقاء مجرد زيارة صحفية؛ كان أشبه بلحظةٍ يتنفس فيها التاريخ ببطء، وتتردد في جدرانها أسئلة أكبر من الحاضر، وأفدح من السياسة.
رئيس لإسرائيل؟ أيُّ عبثٍ هذا؟ قالها أينشتاين بضحكة خافتة تخفي ارتباكًا مريرًا: «عرضوا عليّ رئاسة الدولة عندهم… يريدون اسمي… لا روحي.»
كان صوته يحمل تعب رجل رأى العالم يتهشم مرتين،
ويعرف أن السلطة حجرٌ إذا حمله العالم سقط من مكان آخر في داخله. رفض العرض، واعتذاره كان يشبه اعتذار شجرة عن أن تصير سيفًا. رفض لأن قلبه ظل معلّقًا بين وجدانين…وجدان شعبٍ ينتمي إليه، ووجدان شعبٍ جُرح أمام عينيه.
طلب من هيكل أن ينسخ ثلاث رسائل: رسائل لا تحمل توقيع عالم فقط، بل تحمل نبرة رجلٍ يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من روح الشرق. همس وهو يناوله الأوراق: «اسأل لهم…
هل هما مستعدّان للسلام؟ وما شروط العدالة؟ وأي باب يجب أن يُطرق أولًا؟»
لقد كان يبحث عن شقّ صغير في جدار المستحيل، عن لغزٍ آخر غير لغز الكون: لغز السلام في أرضٍ تتنفس الوجع.
جاءته رسائل إسرائيل محمّلة برجاءٍ صاخب:
— «تعالَ رئيسًا… سنرفع اسمك فوق جرحنا.»
— «سنمنحك جنسية، وحرية، وعرشًا لا يقيّدك.»
لكن أينشتاين كان يعرف أن التاج حين يوضع على رأس عالم… يكسر الرأس لا التاج.
كتب ردّه الأخير بيدٍ ترجف بصدق: «لقد تأثرت حتى العار… لكنّ نفسي لا تعرف طريق السلطة، وعمري لا يسع حمل أمانة بهذا الثقل.»
كان ذلك الرفض أشبه بصرخة خافتة في وجه زمنٍ فقد براءته. خرج هيكل من برنستون ليلتها، والثلج يهطل كما لو كان سيمحو آثار الخطايا عن العالم. كان يحمل في حقيبته أوراقًا، وفي قلبه قصة تشبه أسطورة: عالمٌ يحاول أن يمنع حربًا، وصحفيٌّ يسافر برسائل تشبه مشاعل صغيرة تشقّ طريقها في عتمة عالمٍ يتشكل من جديد. ولم تفتَح تلك الرسائل بابًا للسلام… لكنها فتحت نافذة صغيرة لننصت عبرها لصوتٍ نادر يقول للتاريخ: «هناك لحظات على الأرض… لا يجوز أن يحكمها إلا الضمير.»