مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

قراءة نقدية في رواية مدينة الرب للكاتبة نادية شكري .. بقلم سمير لوبه

2025-04-21 16:41:14 - 
قراءة نقدية في رواية مدينة الرب للكاتبة نادية شكري  ..  بقلم سمير لوبه
سمير لوبا -قاص واديب مصري
منبر

يسعدني أن أشارككم هذه القراءة في رواية "مدينة الرب"، هذا العمل الذي لم أقرأه بعين الناقد فقط، بل بعين المتورط عاطفيًا في لغته، المتأمل في صمته، المتلمس شروخه.


بداية أود أن أوضح أنه لا كلام يعلو على آخر، إلا بما يضيفه من معنى وأفكار وأسئلة جديدة. ولا تعلو تجربة إبداعية على أخرى إلا بقدر اشتغالها في منطقة الاستثناء. لا يكفي أن تكون مختلفًا ومُدهشًا حتى تُوصَف بالعلو. العلو في الأدب، كما أراه، أن تكون مفاجئًا، غير متوقَّع، أن تُحرّض النقد على طرح الأسئلة وفتح أبواب الجدل؛ جدل المعنى، جدل الخيال، جدل الحياة.
فالكلام مراتب، وكذلك التجارب. وما نقرؤه اليوم ليس فقط عملًا أدبيًا، بل تجربة تحتمل هذا النوع من الاختبار؛ اختبار القيمة بما تفتحه من أبواب، لا بما تغلقه من يقين. سنحاول، إذن، في هذه القراءة، الاقتراب من النص لا باعتباره منتجًا مكتملًا، بل باعتباره سؤالًا مفتوحًا، في اللغة والبنية والرؤية، سؤالًا عن الكيفية التي يصنع بها الأدبُ أثرَه، وكيف تخرج الرواية من حيز السرد إلى أفق التأمل، من الحكاية إلى الحياة.
في هذا المسار، لا نبحث عن "الجميل" فحسب، بل عن "اللافت"، عن الذي يتحدى التوقع، ويضع قارئه أمام مرآة مختلفة.
أمام نص كهذا، لا نجد أنفسنا أمام رواية تسعى لأن تُحكى، بل أمام تجربةٍ تحاول أن تُعاش. روايةٌ تَخرج من مألوف السرد، لتكتب هشاشة الإنسان في مدينة فقدت يقينها، وأصبحت تفيض على سكّانها بوجعٍ صامت.
بصوتٍ محمّل بالتأمل، وبخطوٍ حائر بين أطلال الذات وأنقاض المدينة، تمضي رواية "مدينة الرب" ككائنٍ لغوي هشّ، يبحث عن خلاصه بين الخراب والانبعاث.
حين شرعتُ في قراءة هذه الرواية، لم أكن أقرأ قصةً بقدر ما كنتُ أتنقّل في تضاريس روحٍ أنهكها الفقد، ومدينةٍ تخلّت عن معناها. فالرواية لا تُقدَّم كحكاية تقليدية، بل كمناجاة طويلة، أقرب إلى الاعتراف، أو إلى مرثية وجودية، تحاول الإمساك بما تبقّى من المعنى في زمن بلا ملامح.
البنية السردية: الرواية كتيه وجودي
تنأى الرواية عن الحبكة المتعارف عليها، فليس هناك تصاعد درامي بالمعنى التقليدي، بل تتشكل الرواية من سرد متشظٍّ، متناثرٍ، شبيهٍ بفسيفساء ذاكرة امرأة تقف على أطلال ماضيها، وتسائل حاضرها بعينٍ مرتابة.
هذه الكتابة لا تنشد المتعة السردية بقدر ما تصنع تجربة لغوية نفسية، تسير على إيقاع الهشاشة والتشظّي، وهو خيار فني جريء يُحسب للمؤلفة، ويضع القارئ أمام تحدٍّ جمالي وفلسفي.
اللغة شعرية الجرح وبوح الغياب
اللغة هي بطلة الرواية الحقيقية. لغةٌ مضمّخة بالوجد، تقطر حزنًا وتأملًا، وتُصاغ بجُمل مشذّبة كأنها شظايا مرايا مكسورة تعكس وجه العالم المنهك. لا تسرد الراوية ما يحدث بقدر ما تعبّر عما يُوجِع.
هذه اللغة، وإن كانت متوهجة بشاعرية عالية، إلا أنها في بعض المواضع تنزلق إلى التكرار أو الإغراق في الرمزية، مما قد يُربك القارئ أو يجعله يترنّح داخل النص دون مرافقة بنيوية واضحة.
الشخصيات: أطياف تمر في حلم
الشخصيات في الرواية ليست شخوصًا مكتملة الملامح بقدر ما هي رموز لحالات إنسانية. نعفف، نورى، الأب، المدينة... كلها تتشكّل من انطباعات الراوية عنها، ومن الذكريات والتداعيات، وليس من أفعال درامية واضحة. وكأن هذه الشخصيات مرايا للراوية أكثر من كونها أفرادًا مستقلين بذواتهم.
الزمان والمكان: الجغرافيا النفسية
المكان هنا ليس جغرافيًّا، بل شعوريّ. القاهرة، القرية، البيت الجديد، المستشفى... كلها فضاءات رمزية لحالة داخلية. المدينة ليست مدينة، بل عالمٌ فقد إيمانه بذاته، وتحولت "مدينة الرب" إلى صورة مقلوبة للنعيم: جنة مفقودة تتجول فيها الذاكرة وجسدٌ أنهكه التيه.
أما الزمن، فهو دائري، متداخل، ينتمي إلى الذاكرة أكثر مما ينتمي إلى التقويم.
الثيمات: عن الفقد، والتحوّل، وعبء الكينونة
تتناول الرواية موضوعات جوهرية، في مقدمتها:
الاغتراب الوجودي: حيث تحاول البطلة أن تنجو من خواء المدينة وخواء العلاقات.
المرأة والمدينة: حضور الأنثى في الرواية هو مقاومة صامتة، وتوثيق لكيف يمكن للمرأة أن تنهض، لا عنوة، بل بنعومة متعبة.
الفقد بوصفه مصيرًا: الأب، البيت، الذكرى، وحتى الذات... كل شيء في الرواية محكوم بهاجس الرحيل.
الرؤية النقدية العامة:
رواية "مدينة الرب" ليست رواية تسعى إلى أن تُرضي، بل إلى أن تُقلق. وهذا من مكامن قوتها. إنّها نصّ تأملي فلسفي بامتياز، كُتب بشغف واضح، وإن بدا أحيانًا فوضويًّا أو مبهمًا. هي رواية من يريد أن يقول شيئًا مهمًا، حتى لو بصوت مكسور.
ورغم افتقارها للبنية الروائية التقليدية، إلا أنها تُقدّم تجربة إنسانية صادقة، وتمنح اللغة فرصة أن تكون أكثر من أداة للسرد؛ أن تكون ملاذًا، وأن تكون عزاء.
ختامًا:
"مدينة الرب" ليست رواية يُقرأ سطرها فقط، بل يُنصَت إلى صمتها، وتُرتّل كصلاة في مساءٍ ثقيل. فيها من الشجن ما يجعلها أقرب إلى النفس منها إلى الورق، ومن المرآة ما يجعل القارئ يراها… فيرى نفسه.

مساحة إعلانية