مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

شـارع داخلي

2023-06-28 20:19:23 - 

في ذلك الشارع الطويل المتثعبن، المليء دوما بالأوساخ، والوحل.. أعمدة الكهرباء الحديدية الصدئة الملتصقة بالبيوت بأسلاكها التي تمر أمام الشبابيك، وفوق الأسقف الطينية الواطئة المصنوعة من جريد النخيل، و "البوص"*.. مصاطب طينية، وأسمنتية مستكينة إلى جوار حوائط أكثرها من الطوب اللبن.. امرأة تقذف بولا من إحدى النوافذ.. كلب يلعق ماء سكب منذ وقت قليل... 
  صوت: والله ما رايح  المدرسة.. آه !
  آخــر: فين الفاس* يا بن الكلب..؟!
  آخر: ملعون أبو السيارات!...
  لافا رأسه، وأذنيه، وما يزيد عن نصف الرقبة "بشاله"* القديم متمددا، كعادته، تراه..  تراها أيضا، تنحني إليه لتضع كوب الشاي الساخن، وكسرة الرغيف الشمسي بجواره، فوق المصطبة الأسمنتية متآكلة الحواف والزوايا، وتنصرف.. 
  ــــ والنبي تقرالي "الختم"* ده يا أستاذ!  
  ــــ الاسم مش واضح.. 
  ــــ مش مهم، يعني إحنا عندينا غيره! 
  ــــ طب أي خدمة تاني؟..
  ــــ ثبتوك في الحكومة ولا لسه...؟!
  ــــ قريبا إن شاء الله! 
  ــــ ربنا كريم، وإنت طيب وتستاهل يا ولدى.  
  .. الكعبة.. سفينة.. طائرة وسط غيمتين.. رجال فقد معظمهم رؤوسهم، وأقدامهم    رافعين أيديهم بالدعاء.. ألف مبروك يا حاج. ترفع بصرك عن الحائط ذي القشرة     الأسمنتية المنتفخة، التي تتناقص مساحتها مع مرور الأيام، وتسير بعض الخطوات    مطأطئ الرأس. 
   بكل مرة، يحاول الاعتدال.. يجاهد، يسعل.. تلقي عليه تحية الصباح.. لا تسمع منه غير السعال، تهرول إليه.. الظاهر منك يقول أنك تود مساعدته، وباطنك يصرخ بشيء آخر!... وبنصف عين تراها (عبر الزاوية التي يصنعها باب شارعها      الداخلي المستقل..) عائدة إلى بيتها، فينفلت بصرك ــ رغما عنك ــ ملتصقا باستدارة قدميها السمينتين البيضاوين، غير عابئ بشيء. لا يقوى على زحزحة بصرك غير مؤخرتها التي تسكنها زلازل العالم أثناء مشيتها... 
   حين يتوه بصرك متخبطا بأكثر من باب وحائط، لأنه لا يقدر على أن ينحرف خلفها        في شارعها الداخلي والضيق جدا.. تنصرف غير مبال به...!!.. من المقهى الصغير يأتيك صوت التلفزيون: "صباح الخير يا بلادي...". يصل إلى أذنيك صياح التلاميذ وضجيجهم.. يلقي عليك التحية تلميذان وقفا إلى جوار الباب، تلمح بين يدي أحدهما   "دفتر" تسجيل أسماء السادة الزائرين.. تخرج الحروف من بين شفتيك ثقيلة، مفككة.. تضع قدمك على أول درجة من درجات السلم الرخامي قاصدا مكتب السيد الناظر، لا تنسى أن توقع حضورا...   
   ــــ يا سيدي الفاضل.. الواقع أشد قسوة من أية قوانين!...
 تقولها لذلك الذي يقوم بأعمال الناظر، وهو يقف أمامك موبخا؛ لشرودك الدائم              والذي سيدفعه ــ لابد ــ لأن يأتي بغيرك ــ كما يقسم في كل مرة ــ لكونك مجرد              معلم بالأجر!.. 
  فوق المقعد الجلدي الأسود الذي يتوسط منضدة صفراء مستطيلة تجلس.. تتزاحم      الأفكار داخل رأسك.. المستقبل.. الزواج.. مصدر الدخل الثابت.. الغلاء.. تحصر             كل أنواع الأشغال والأعمال التي تستطيع القيام بها.. عامل بأحد المصانع.. مندوب مبيعات.. بائع في سوبر ماركت.. ضابط أمن بإحدى الشركات، أو القرى السياحية.. عامل يومية.. أيضا تفكر ــ كما تفعل دائما ــ  بالسفر إلى الخارج، لكنك تدرك ــ كما يحدث دائما ــ أنك لا  تملك حق التفكير بهذا الأمر، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا.. حتى نفسك!!... 
  يائسا تحاول أن تجد لك عملا تقدر عليه، وخاصة بعدما (تطرد).. في فترات العطلات             والإجازات الرسمية!!... تكاد تسيل الدموع من عينيك، لا تهتم بأمر التلاميذ الذين أحاطوا بك حاملين أحد الكتب...
   ــــ الصفحة دي يا أستاذ؟..
   غير أنك حين ترفع رأسك عن المنضدة، تراهم يطيرون كل إلى مكانه..                       هم يخافونك.. تعجب أنت ــ في نفسك ــ من ذلك، وتتساءل ــ في نفسك أيضا ــ عما يجعلهم يخافونك.. يخافون مجرد إنسان أجوف!!...
   ــــ إنها سنهم الصغيرة، وعدم إدراكهم لحقائق الأشياء.. ليس إلا!. 
   تقولها، ولا يسمعونك، لكنك تسمعهم وقد اعتادوا سؤالك إن كنت مريضا، أو متعبا.. تبتسم دون إرادة، فتراهم يضحكون.. يضحكون من القلب..
   تأتيك بعد ذلك، تقف أمامك بمؤخرتها الضخمة.. تأخذ مكانك فوق المقعد.. تتهادى         في مشيتها بالطرقة فيما بين الفصول.. تنزل إلى فناء المدرسة.. ترفع ثوبها حتى        الفخذين الثقيلين الأبيضين.. تتذكره بسعاله الذي لا يتوقف، وأنفاسه المتقطعة.. تراها   تغسل قدميها بماء الصنبور العكر!!... 
   ــــ هل قرأ أحدكم شيئا عن المسابقة!؟..
   ــــ قل يارب.. يكون فيه مسابقة أصلا..!
   ــــ انسوا!...
   و.. أصوات مختلطة...
   لا يقطع الحوار، متعدد الأطراف، سوى صوت جرس المغادرة.. تمشي متثاقلا، لتكتب اسمك مرة أخرى داخل نفس الصفحة الممزقة، وتنصرف.
   .. أصوات كثيرة متداخلة تسمعها، وأنت في طريق العودة.. يخنقك الزحام والتراب         الذي لا ينتهي إلا بانتهاء الخط.. و... 
    قبل أن يخطفها شارعها الداخلي، تراها تلقي إليك ببصرها.. عيناها تقولان أن       نظراتك أصبحت تنم عن رغبة مدفونة بالصدر.. وعيناك.. تعجز عن إيجاد لغة أخرى!... وعندما شاءت الظروف، ودخلت إليها تحمل كيسا باهتا يجمع "الختم" ــ بخطوطه غير الواضحة ــ وبطاقته، وبعض الجنيهات.. لم تكن في حاجة لعينين أخريين بعدما اكتشفت أن لعينيها لسانا آخر!!... 
  سألوك عن أشياء كثيرة.. قلت: (إنك هكذا تعيش، وأن الدنيا ليست سوداء كما          نظن، وإنما نحن نراها كذلك ربما لعيب ما بأعيننا ، وأن الصحافة هي صوت الحق، وأننا أغبياء، وأنه لا يوجد أحد من مصلحته أن يضحك علينا، أو يسخر منا رغم أننا نرى كثيرين يضحكون، ويخرجون ألسنتهم لنا من خلال أماكن لا نستطيع دخولها.. أقسمت أن هذا وهم الضعفاء!!...)
  قالوا: ألم تقل بأن العالم قد فسد، ويحتاج إلى حرب تطهره؟!..
  قلت: (أنك لا تذكر!!) 
  قالوا... ولم ترد.
   لم تتردد.. فقط فكرت قليلا، ثم لاحظت أن نشاطا غير عادي، وخفة قد سريا        بداخلك، وأنت تخطو عتبة غرفة قديمة معتمة... 
  دخلت.. لكنك لم تخرج من هناك!!. 
ــــ تمت ــــ

مساحة إعلانية