مساحة إعلانية

في سؤال الشعر
إذا كان الشعر بطبيعته الماكرة يُعَوِّدُ صاحبَه على أن يمارس بدوره مكرا في اللغة. فإن اللغة الشعرية بنية لا يستقيم تعريفها إلا بما عُرف به الشعر من أنه فوق كل تعريف. لأن تعريفه نابع من عملية إجهاض تتكرر باستمرار، جاعلة من المجاز قناعا للعبة الشعرية. ولأنه كذلك فالتجربة الشعرية لا يحدها إلا ما تمارسه من خلال ثقافة تأويلية لواقع الإنسان. وهي مرجعية غير سهلة التحديد لتنوع المؤثرات في قول الشعر ونقده. فكلما سُئل الشعراء متى يكتبون، وكيف يكتبون ولمن يكتبون، تتنوع الإجابات بين الحالات المعرفية والسيكولوجية والاجتماعية والسياسية.
ولما لم يكن الاجماع على امتداد التاريخ بين العلماء، فقد ظل سؤال الشعر بابا لتثوير السؤال حول ماهيته، في محاولة لتجاوز الرؤية الأرسطية في التمييز بين الشعر والنثر، وهو ما تناوله النقد العربي بدوره والفلاسفة المسلمون، بحيث نظروا إلى الخطابة والشعر باعتبار المعنى ودرجة التأثير في المتلقي، كما أثبته حازم القرطاجني في منهاجه. ولعلي بهذا أشير إلى طبيعة الشعر وعلاقته بالإنسان من حيث كون الشاعرة ليلى المليس تعلن عن شكل الكتابة الشعرية، فكان النثر سبيلا للتحرر من بنية القصيدة العمودية، وهو أول ملمح لولوج محراب المشاعر واستنبات الصور. فرافقَ الشاعرةَ شكلُ الشعر في الغرب كما حدث في البلاد العربية منذ لحظة التمرد على قوانين الكتابة التقليدية، وصولا إلى قصيدة النثر والهايكو وغيرهما من أشكال الخطاب الشعري. وقد قال أدونيس في كتابه (زمن الشعر) : " فالقضية الحقيقية في الشعر ليست ما تقوله النظرية، بل هي ما تقوله القصيدة، إن قصيدة عظيمة، يمكن أن تلغي جميع النظريات في كتابة القصيدة، لكن جميع النظريات لا يمكن أن تلغي شاعرا عظيما" .
والشاعرة ليلى المليس تكتب ديوانا شعريا وسمته ب" حنين بلون الرماد" وهو العنوان الذي اختارته الشاعرة مدخلا اعترافيا بأن مجال انفعال الحرف عندها يتشح بلون الرماد. والرماد في أبعاده الدلالية هو حصيلة ما بعد انطفاء الجمر. وهو ما يستدعي البحث عن باقي الدلالات المكونة للنصوص المحاصَرةِ ببقايا الحريق.
وفي الديوان ثلاثة وأربعون نصا(43)، تتوزع بين الذات والعوامل المؤثرة في توزيع درجات الانفعال، حيث تتحدث الشاعرة عن نفسها الملتاعة بتحولها وفق رؤية لا تتحدد بالزمن إلا أن يكون انفلاتا من حال إلى حال أخرى جديدة، ساهم في تكوينها عمق الرؤية التي تحيط بالمتعدد فيها، فخالط الذات الثقافية اختزال المتخيل في الشعر الذي ينسجه حبيبات الرماد في سكونها أو في فورانها، ساعة تعصف ريح الذكريات، وتجعل من الحنين موعدا لبسط اللايقين في توقع الآتي، واستشراف مصير رحلة الرماد.
وقد صنعت الشاعرة بهذا الديوان حرفا قمينا بصفة الإغراق في قاموس الحنين، بدءا بمعانقة الأب في نصها الأول (والدي) وختمها بنص(الجلسة الأخيرة)... وهي رحلة موسومة بشعرية الوجع كما تنبئ جلّ عناوين النصو، وكأن الشعر لا يقوم بغير الغوص في لعبة درامية أساسها تجربة الكتابة بين مكانين متباعدين، وبين زمنين يتشحان بمضايق أنطولوجية خاصة. كان لتجربة الهجرة فيها يدٌ، حيث صنعت من ليلى المليس مبدعة شاعرة في الكتابة السردية كما الشعرية. وكأنَّ الحنين ليس سوى لحظة شعر تفصل بين يقظة المواجع، وترقب المصير.
من هذا المنطلق ارتأينا أن نتبادل الحديث مع كلمات الديوان، من خلال سؤال في شعرية القصيدة عند الشاعرة ليلى المليس، شعرية لا ترتكن إلى معيارية اللغة، وإنما ما تبادلته الشاعرة مع لغة التواصل بين الذاتِ كحيز مادي، والذاتِ كفضاء تخييلي للمكاشفة الثقافية. وهذا يستدعي أن نجعل من نص العنوان جامعا بين الزمن حنينا ولون الرماد رؤيا. وما بينهما يتواشج الفضاءات في الفاعلية التي تقترفها ذات الشاعرة لتؤسس تجربتها في قلق شعري مفعم بنوستالجيا ثقافية، كلما عزّ عليها أن تجمع شظايا الرؤية الرمادية.
وتأسيسا على ما سبق نلجُ الديوان من خلال ثلاثة محاورَ نراها تحمل من الدلالة الشعرية ما يبرز تجربة الشاعرة ليلى المليس، وهي : دلالة العنوان بين شعرية اللون والصوت ، ورقصات على وتر الرماد، ثم الصورة الشعرية.
1-دلالة العنوان بين شعرية اللون والصوت
أ-في بنية العنوان:
ويتكون من أربعة عناصر: حنين/ باء/ لون/الرماد. وهي جملة اسمية دالة على حالة التوصيف عموما. فحنين فيها أمران. أما الأول فمبتدأ وما بعده متعلق بخبر محذوف تقديره واقعٌ أو حاصلٌ أو مصطبغٌ وما في معناهما اسما أو فعلا ك(يتكون) أو (يصطبغُ). أما الثاني فخبر لمبتدأ تقديره (هذا: هذا حنين) والباء للاستعانة كقولنا (كتبت بالقلم) أي مستعينا بالقلم. والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف، فدلت العناصر في جمعها على أن الحنين سيرتبط بلون الرماد الذي جاء معرفا ليكسبه الاستمرار والإغراق في الزمن، مما يجعل من الحنين صوتا غير محدد لوروده نكرة دالا على عمومه من خلال دلالة اللفظة(حنين) على معناها المعجمي كالبكاء والعويل على شاكلة حنين الناقة لولدها.
ب-الرماد غشاوة للحنين:
والرماد من اللون الذي يحجب الرؤية، يعبر عن حالة البين-بين. وهو مدخل إلى دراسة في سيمياء الألوان، وحضوره بين باقي الألوان كالأبيض والأحمر والأخضر وغيرها، لا يسقط عن العنوان دلالة كليةً تعبُر مجمل القصائد في الديوان. ويعكس ذلك درجة وعي الشاعرة بخدعة النور الذي تمتح منه الألوان طبيعتها، كما تعكسه القصائد وهي تعبر عن المعاناة وتشظي الروح الداخلية وصراعها مع العالم الخارجة عن الذات. يقول إبراهيم ناجي:
سَاهِرَ اُلْعَيْنَيْنِ مَوْصُولَ اُلسُّهَادْ مَا اًلَّذِي يُجْرِي لَهِيباً فِي اُلرَّمَادْ
إنه تعبير عن وعي شقي يقوم على موقف الانتماء إلى نوع من الحياة التي تحاصر الحلم وتلونه بلون الرماد، وهو في بنية ديوان الشاعرة ليلى المليس عنصرٌ يملأ كل الثقوب والفراغات بكل ما يوحي به الرماد من يأس وحزن، وإن كان لا يسقط الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يشكل تنويعا في الفعل الشعري واستيهاماته التي تطارد ردم الهوة الفاصلة بين قيم العالم الواقعي وعالم اللغة في الشعر.
ت-حنين :
ولما كان الحنين يرتبط باللحظات السعيدة، فقد أيقظ في الشاعرة ألم الاسترجاع عبر آلية التذكر، الذي يغشى فضاء القول، وكأنها لا تقيم حدا للحظتيْ الصفاء والعتمة. وفي هذا الصراع ما يثوِّر اللغة الشعرية في عمقها التركيبي والدلالي. وبين الحدين كان الحنين بلون الرماد، ينسج صوت القصيدة في بنيتها التركيبية وصورها المجازية والاستعارية والرمزية، والتي تنآى عن الدلالة المفردة لتمنح المتلقي باب التأويل ضمن دلالات كبرى ومتنوعة.
إن اللون ليس مجرد مسحة تزين الأشياء وإنما يعبر عن دلالة وقيمة، وهو في الديوان رمز يرتبط بعدة مجالات كالدين والصوت والموسيقى والشعر، كما يرتبط الأحمر بالخطر والأسود بالحزن والأبيض بالصفاء والطهر وهكذا. ولعل وروده في القرآن يعكس قيمته ساعة الحسم في نوع البقرة ( إنها بقرة صفراء فاقع لونها). فلون الرماد في الديوان، استدعاء لدلالته في الثقافة الإنسانية التي تجعل منه وقوفا بين لوني الأبيض والأسود. فلا هو بالأول ولا بالثاني، إنها دلالة على غموض الموقف أو الصورة، التي تبدو باهتة ضبابية، كالدائرة لا يعرف طرفاها. ولا تتحدد إلا بتفكيكهما. تقول الشاعرة:
وتكون الوليمة عهرا
قد أكون رمادا،
شظايا عذاب،
وقولها في قصيدة مواجع الرحيل :
الغدر سكين أعمى،
افتخارك انتصار،
على امرأة من تبن،
قد تشتعل وتفنى.
افتخارك انتصار
على امرأة من حبر،
قد ترسم الكون أبهى.
حوَّلْتَها رمادا أسوادا،
هكذا تحمل الذاكرة غموض الرؤية المحاصرة بالرماد، كما تبين ألفاظ العمى والشبح والحمق في سياق "قد" التي تفيد تقليل تحقق الفعل، بقولها: قد تشتعل وتفنى / قد ترسم الكون أبهى... فتحتمي بأسطورة العنقاء، حين تقول:
والعنقاء سيدي،
انتفاضة لامرأة أخرى،
سيظل طيفي شبحا يطاردك كل مساء،
ستظل في ذاكرتي ذكرى حمقاء.
2-رقصات على وتر الرماد.
ارتبط الرماد بالأسطورة ورمزية طائر الفينيق، وقد أفاض شعراء الحداثة في استعماله في أشعارهم. وذهب الدكتور خليل موسى إلى ربط الأسطورة بالشعر حين قال:"الشعر والأسطورة نشآا في رحم واحدة، وهما توأم ولا غنى للشعر الحقيقي عن الأسطورة والحلم" 14 ونجد هذا في الشعر الحديث الذي يوظف الأسطورة لتنشيط الدلالة وتعميق الرؤيا كما هو الشأن مع أدونيس الذي وظف الفينيق ومهيار الدمشقي وغيرهما من أجل الغوص في تغريب التجربة الشعرية، وإعطائها معنى الانتقال والتحول من اليأس إلى الأمل، ومن الموت إلى الانبعاث، يقول أدونيس:
فينيق، تلك لحظةُ انبعاثكَ الجديد
صار شبه الرماد صار شرراً ولهباً كوكبياً
والربيعُ دبَّ في الجذورِ، في الثرى
أزاحَ رمل أمسنا العجوز
والثلاثة أسيرة الركام والفراغ والدجى” (15)
فالفينيق كلما احترق نهض من رماده، ويدل هذا على تفاعل الذكورة والأنوثة في رمزيته، وهو ما يجعل من رماد الشاعرة ليلى المليس غطاء للأمل في ولادة جديدة والتخلص من حال إلى حال. وهي إذ لم تشر لطائر الفينيق فقد جعلت من لحظة الفصل بن الموت والانبعاث لونا يؤكد جاهزية الانتقال رغم ما تحيل عليه لفظة حنين من امتداد في الزمن، وكأن لا مخرج إلا بإعلان التمرد على واقع الأشياء المهترئ، وعن الحالات التي تتصاقب عبر كلمة (حنين). هكذا يصبح رماد الشاعرة رمادا هسبريسيا – نسبة لديوان رماد هسبريس للشاعر الخمار الكنوني – حين يقول:
هسبريس تناديك باسمك في كل عام،
تذبح أبناءها وتقول:
من خلال الرماد رأيتك نارا،
فنارك فيك ، فنارك فيك...
إن الشاعرة ليلى المليس تؤسس شعريتها من رحم الرماد، لتحصل على بعث يعيد لها نشوة الرقص على أوتار الطفولة التي يحاصرها الموت والصمت، ليغدو الصمت نشوة الرقص، على شاكلة رقصة جناحيْ الفينيق كي ينبعث، تقول في نص (الرقص على أنغام الألم) :
كان يراقصها حينا،
وحينا يغازل فيها الألم.
كانت ترثي في صمتها رقصها،
وتنادم فيه العدم.
إنها حالة تراجيدية تفرغ الأشياء من معناها، فتغدو الأفعال تعلة للسخرية من القدر. فكل من الرقص والتغزل يحمل مكر المشاعر، فترثيها الشاعرة في بنية توصيفية تعبر عن استحضار كينونة مشروخة من خلال (كان) و(كانت) لتصل إلى إفراغ الحوارية في منادمة العدم. هكذا ستصبح الأنا أسطورة أو خرافة لامرأة ترقص على حبل الألم، لا تستحضر لحظات الفرح إلا ليتجدد الألم في مضمون النصوص كلها. فيتعربد قاموس الوجع والمحن رغم ما يمكن أن تحيل عليه لفظة الرقص من فرح، تقول الشاعرة:
تراقصت حولها الأماني كأنها،
حور تعود بها على هودج الحلم،
أسطورة أو خرافة لامرأة، تداس:
جهلا،
خوفا،
ظلما،
لتصبح دالية للشجن.
فإذا كان ديونيزوس قد ولد من رماد أمه سيميلي التي طلبت من زوجها زيوس أن يظهر لها في كمال مجده، فتحول زيوس إلى صاعقة أحرقت سيميلي ، فقد دفعت هذه الطريقة المأساوية أرواح الغابات وربات الفنون إلى تربية ديونيزوس إلى جانب سيلين، فراحا معا يعلمان الناس زراعة الكروم وصناعة الخمور وممارسة النشوة وتحقيق اللذة، وفي كل مكان كانا يحتفلان بديونيزوس اعترافا بجميله، حيث يتم الرقص والغناء إلى درجة الجنون والسكر للاندماج في الطبيعة ...
فالشاعرة تصور هذه الرؤية المأساوية حين تحولت إلى دالية للشجن، فتعلق الشجن بشجرة ولود تدل على عمق التجربة واستمرارها، مما يجعل من زخرفة التجربة بعبارات الحلم والأمل تسترا على الواقع بشعرية الكلمات. فبؤرة الديوان هو ما يعلنه العنوان الذي يُقر بوجع الحنين، وتكرره النصوص رقصا صامتا، في نص (الرقص المتكرر للصمت) وكأن النص على ظهر غلاف الديوان يعبر عن الانفصال عن لحظات الحلم، حين تستفرد الوحدة بالذات، فتقرأ الشاعرة منازل الحزن الدفين فيها:
أجالس وحدتي
والناي
والصمت يراقص جدران هذا البيت القديم.
فالوحدة غناء والصمت رقص مع الجدران، هكذا تستبطن الشاعرة رقصها الخافت، وتعيش تجربتها الذاتية في خصام وجدال، حيث يستأثر اليتم والحزن والضياع ، تقول:
أطوف حول ظلي قليلا
أحدق في المرآة
لا أعرفني إلا قليلاٌ
قليلاٌ.
كأني لا أكتب إلا عن ذاتي
وذاتي ذوات.
تمزّقت، وكمثل الإكسير
تُطيل عمر الآهاتْ.
فالشاعرة تعيش نبضات المرايا المشروخة، فتسمح لنفسها أن تقلب وجوه الوحدة في مغازلة الطيوف وسراج الأم وعطرها والأماني. وكأنها تقيم الوصل مع الولادة، حين تكسر ذاتها في ذوات متعددة لتعيد بناء وحدتها وتنبعث من جديد. ولذلك وظفت الأسطورة لتعبر عن عالم الرماد باستحضار نيرون الذي أحرق روما ، في قولها:
يعزفون لحن نيرون
عزفا أشد ألما
والموت يصادر فرحتنا، ويقتل فينا ربيعا
كان عمره قصيرا
إن الشاعرة تعبر عن وعي تعيس يقوم على تجربة حياتية تتجاوز المرئي المحسوس إلى ما لا يدرك إلا بالتخييل في واقع الشعر، واقعٍ ممكن لكنه منفلت عن التحديد. لذلك كان تكرار الفعل المضارع تعبيرا عن استمراره ( يعزفون – يؤرخون – يعزفون – يرددون ) بدون تصريح بالفواعل، فمن هؤلاء ؟ هكذا لا يمكن نسبة الفعل لأحد، إلا أن واو الجماعة دلّت على أن الفاعل المضمر جماعة. ويدل عدم نسبة الفعل لفاعل محدد، على انسجام مع عسر الرؤية، بحيث أمسى اللون الرمادي يشكل غطاء للتعبير عن رؤية قلقة للعالم، وعن الصراع غير المتكافئ مع الآخر، حين يصادر الموت الفرح، ويقتل عمر الإنسان. هكذا يصبح الموت والحياة أسئلة أنطولوجية حارقة.. وفي حقل دلالة الرماد يتم استحضار ألوان أخرى تسمح بإقامة مجموعة من الثنائيات، في عمومها لا تخرج عن لونَيْ الأبيض والأسود ولا عن الموت والفرح والقتل في تقابلها ودلالاتها الثقافية، كقول أبي تمام :
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
والقصد من إيراد هذا المثال هو إبراز لون البياض والسواد في المرجعية الثقافية العربية، فالأسود ما دل على الشر والحزن والألم والظلمة واليأس والتهلكة وغيرها، والأبيض ما دل على النور والفرح والهدى والابتسامة وغيرها، وهو ما يلخصه كلام الرسول ص ( إني تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك) هكذا ارتبط المعنى بالظلمة والنور. ولما كان لون الرماد يحيل على ضبابية الرؤية، لا نور ولا ظلمة، فإن الشاعرة استعارت معادلات دلالية من خلال الأثر في اللفظة الموحية كالألم والجرح والعمى والليل والغياب والوجع والظل والجنون والتيه والرحيل والفراق والصمت وغيرها مما ورد صراحة في عناوين النصوص وثناياها، إلى جانب دلالات أخرى يدل عليها سياق المعنى التركيبي.
والوقوف على الرماد كوصف للحنين، يثبت أن لفظة حنين تحمل معنى الزمن والحدث في آن واحد. فلا يكون الحنين إلى لعلاقة ممتدة مع حدث في الزمن. فحنت الناقة لولدها أي أحدثت صوتا لتعبر عن فقدان لحال، وهو نداء لاستعادة الوصل مع وليدها. ومفهوم العودة لا يقتصر على الفقد بقدر استشراف هذا الوصل، فيكون الانتظار معادلا دلاليا للتحقق، وهو ما عبرت عنه الشاعرة في قصائد: هذا ما تنتظر ص 56 و سفر إليك ص61 وحنين بلون الرماد ص 77. وفي النص الأخير الذي يمثل كل القصائد في عنوان الديوان، تقول الشاعرة :
أحن إليك،
وحين أراك،
أسافر ثانية عبر وصلة حرف مجهول،
يلوح كنجمة عذراء،
تذكرني بهمس تلاشى جنونا،
وبقايا لقاء.
هكذا تقع الشاعرة بين الحنين والسفر المجهول، فتتذكر ماضي اللقاء، ويتحول الحنين إلى وجع، لا تتجاوزه إلا عبر الجنون الذي يهمس بما تبقى من ذكرى يوقظها. وأمام هذا التصادي بين الحاضر والماضي، يستعيد الرماد صولته، فيمتد في الأزمنة توصيفا لحال (أحن- أراك- أسافر- يلوح - تذكر ) ثم ينهض الأمر لينطلق نحو المرغوب فيه، تقول الشاعرة في نفس القصيدة:
تعمّدْ جرحي بالماء،
ضمّدْ خوفي،
وخطوي الأسير،
لأسير نحوي،
عبر متاهات العمر القصير،
تريّثْ قليلا لأُقرئك السلام !
لأُسمعك نشيد الوطن الحزين.
وفي هذا المقطع تحاول الشاعرة أن تؤثث فراغات الزمن بالانتقال إلى مجابهة المخاطب عن طريق تعميم المأساة من خلال نشيد الوطن الذي وسمته بالحزين. وتجعل من الذات الحزينة جزءا من حزن أكبر، هو شعار الوطن كله، فيصبح الحزن تيمة أساسة تستغرق كل الأزمنة، ويفتح باب التأويل لمفهوم الحياة في كل تجلياتها. وهي أسئلة وجودية تعكس درجة التفاعل معها، إذ يصبح الموت خلفية التأمل والاستبصار، لا يحدها الأزمنة ولا الأمكنة. ونلاحظ ذلك من خلال التشكيك في كل الأشياء وبطريقة تتلاءم والرؤية التي تعكس لون الرماد. هو الشك في كل الحياة، ما دام الحنين يحيل على مناطق النور فلا تراه الشاعرة كلما نظرت إلى واقع الحال وانكسار الذات.
فإذا كان الإبداع الجمالي لا ينسب للذات الفردية الواعية، فإن ارتباط الفن بالحياة يتم عبر التوسع في تشكيل الصورة كشرط أساسٍ لها، تتجاوز الحقيقة، لتحقق بالفن صيرورة شكلية للحياة.
3-الصورة الشعرية.
لعل من جماليات شعر الشاعرة ليلى المليس، هو الوقوف على الصورة الشعرية، والتي نعتبرها جوهر الشعر، ما دام الشعر هو صفوة الكلام وتدبيجٌ لجمال العبارة. والصورة هي الأمر الذي لم يختلف فيها النقد الأدبي ولم تخرج عن سياقاتها النظريات الأدبية منذ القدم. فقد ميز الأدب بين الشعر والنثر منذ أرسطو، وتطور مفهوم الشعر من خلال شعرية القول، التي عرفت أيضا تحولات أملتها حداثة السؤال، فتعلق الأمر بكيفية القول لا بالمقول، تجاوزا لتعريف الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى الدال على معنى. ويعني هذا أن الشعر يُعرف بصياغة الصورة وتلويناتها المبنية على لغة البناء والهدم، سيرا على مجمل التحولات التي أصابت الحياة. من أفلاطون إلى حازم القرطاجني إلى هنري ميشونيك إلى سوزان برنار وآخرين، وصولا إلى أسئلة الحداثة وتطورات البحث فيها. لذلك لا يمكن أن نؤسس لنظرية واحدة للشعر، إذ لا نصيحة في الشعر ما دام كل شاعر يقصده بلغته ورؤيته للعالم.
فالشاعرة ليلى المليس وهي تعلن تمردها على القوالب الجاهزة في الشعر، لم تستطع الخروج عن تشكيل الصورة الشعرية والتجديد فيها. ولعل مناط الحزن والألم أن يفسح المجال للتخييل والجمع بين أشتات العالم في لغة سليمة، قصدُها بناء عالم ينضح بشعرية القصيدة، بعيدا عن البلاغة القديمة، وإن كان المجاز هو مبدأ الكلام ونهايته. وقد استعارت الشاعرة آليات الحداثة من حيث بلاغة السرد في الشعر، وسلاسة العبارة، وتوزيع الجملة الشعرية:
-سردية الجملة الشعرية :
إن الشاعرة وهي تطارد رؤيتها الرمادية، تجعل من توصيف الحال خبرا فتنقله عبر توظيف للضمائر التي توزعت بين الأنا والمخاطب والغائب. وهي بذلك ترصد حالة اغتراب الذات المحتدم، فتسرد مواقفها الدرامية، بحسب فيض في المشاعر التي لا تحدها حدود الزمن والمكان. فجاءت القصائد عندها قصيدة واحدة، يتوزعها الموقف من لعبة الحياة التي يمكن تعريفها بأنها حكايا متواصلة للصراع. توظف أساليب متنوعة بين الخبر والإنشاء والحوار ورصد المشاهد، دون أن تنفلت من قبضة السرد، عبر أساليب الخبر والإنشاء والحوار ونقل لوحات مشهدية :
* الخبر:
وهو عماد السرد في رحلة الشاعرة الأسلوبية، مؤمنة بأن الماضي مكون أساس في تشكيل رؤيتها للعالم.
- ففي قصيدة ( الرقص المتكرر للصمت) ، تقول : ( أجالس وحدتي / والناي،/ والصمت يراقص جدران هذا البيت القديم / تجادلني وحدتي، / وقد جعَلَتْ ترانيم الصمت/ وجودَها)
- وفي نص (عودة شهرزاد) ، تقول: ( أذكر سيدي أني حرةً كنتُ،/ والسجن ذاتكَ العاشقة.)
-وتقول في قصيدة ( تيه) : ( حين يطاردني المساء،/ كرسالة مهاجرة./ أحتسي غيوم النهار،/ وأرسم على جدران المدينة،/ عهدنا./ أشاكسه،/ أمشي أنا وظلي بعيدا،/ ثم أعود.)
-وفي قصيدة (أأنت نبي أم شيطان) تقول ( تخبرني الخرافة ،/ عن انتحار السنين،/ ووأد الوردة ،/ تخبرني عن قصور،/ وحصون،/ عن وديان تجري،/ هناك، / هنا، بين الجفون.)
-وفي قصيدة (هذيان) حيث تقر الشاعرة بتشردها بين الحلم والهذيان، تقول ( سيكبر ذاك الحزن يا ولدي / يغدو صبرا جميلا يزهر كل يوم.
-وفي قصيدة (مواجع الرحيل) تصرخ الشاعرة تحكي رحلة العنقاء، تقول ( ركبت السفن، / غادرت الموانئ/ تهت كثيرا/ تحت أشعة الشمس الحارقة / تستظل بظلي / فكنت أنا العارية / أحاور كل نخلة تصادفني/ أهز بجذعها / فيتساقط الألم مرا / وقفت ألوك الصمت/ والوجع مبتسم / الغدر سكين أعمى، / افتخارك انتصار/ على امرأة من تبن / قد تشتعل وتفنى. افتخارك انتصار/ على امرأة من حبر / قد ترسم الكون أبهى/ حوّ لْتَها رمادا أسوادا/ والعنقاء سيدي/ انتفاضة لامرأة أخرى)
هكذا تحكي الشاعرة بأسلوب خبري مستعينة بمجموعة من الوسائط الأسلوبية توظفها لتكشف عن عمق الألم، ومعبرة عن مرارة الرحيل ومواجعه، مما أكسب النصوص الشعرية رحلة في البحث عن الصورة الفنية، جاعلة من سرد الخبر انتحالا للأسطورة تارة والتذكر أخرى، تعبيرا عن موقف امرأة من تبن على أهبة الاحتراق لتنبعث من جديد ذاتا أخرى. هكذا يصبح السرد مركز التأمل في ما بين الأزمنة الثلاثة، يجمع بينها الحنين المتمرد على الألوان والأشكال، في توزيع للجملة الشعرية على الأسطر بين العبارة الطويلة واللفظة الواحدة، وهو ما يؤكد أن الدفقات الشعورية تتشكل طرديا مع الحالة النفسية الباعثة على تصفيف عالم القصيدة.
*الإنشاء :
ونجده مثلا في قصيدة ( بالأخضر أريدك أن تكون) ، حيث تكشف الشاعرة عن موقف لا يستدعي الإجابة ، بل يبقى محصورا في الاستفهام ب (كيف ) حين تقول:
-كيف لي بزهرة؟
-كيف لولدي الأكبر أن يرقص؟
-كيف لي أن أحب؟
-كيف لي أن أحاور كبرياء الشموخ فيه؟
فكلها استفهامات تنضوي ضمن سردية كبرى واصفة، في مفتتح النص، بقولها:
-تتقاذف الأمواج وأنا حائرة.
-أمشي دامية القدمين.
هكذا يصبح الموقف الشعري نقلا لإنكار المصير غير المطمئن والخالي من ملامح الاستقرار في الذات، بل يستفحل حين يكون ضمن البحث عن وطن، وكأن الشاعرة تجابه قوة لا يمكن حصرها. فيتحول البحث عن الأخضر رغبة عسيرة التحقق، سواء على مستوى الأمل والحلم أو على مستوى البحث عن نشيد أبيض في الذاكرة. هكذا تغدو الذاكرة محركا لسرد مشاعر الشك في مفهوم البحث عن خلاص، ما دام لون الدم هو لون المشي بقدمين حافيتين. مما يجعل من حضور الألوان الموزعة بين الأخضر والأبيض والأحمر توزيعا دراميا لمعاني الانكسار في سياقات متنوعة، حيث تسقط دلالات الزهرة والرقص والحب والكبرياء من معناها ليستمر لون الرماد كرؤية مأساوية لعالم الشاعرة.
*الحوار:
وضمن هذه السرديات الكبرى نجد الحوار، وهو أحد الوسائل التي تعلن من خلالها الشاعرة حواريتها مع الذات في قصيدة " العرافة" ، حيث تُغيِّب العرافة باستعمال الماضي :
قالت العرافة ما قالت،
ثم اختفت.
قلت : خرافة،
قالت: سيرحل كما الغيم
قلت : خرافة
قالت : أقدارك ولا اختيار
قلت : خرافة
وكأن الشاعرة بذلك تؤكد معرفتها بالجواب . بل جعلت من تكرار لفظة (خرافة) ضربا من استحالة الجواب، حيث تدرك أنْ لا سبيل للوقوف على الغائب.
وعبر هذه الحوارية سيتم إسقاط الفصل بين الحضور والغياب لدى العرافة( اختفت = عادت) لأن الشاعرة تبقى الحوار على فسحة للأمل، وهو إحساس يضمر استحالة تحققه ليقينها بأن ( لا ورد ولا ماء).
وفي نص (عودة شهرزاد) سردية لحوار ذاتي، تقول الشاعرة:
أذكر سيدي أني حرةً كنت،
والسجن ذاتك العاشقة.
خلقت في ومضة صفاء، توأما
للحظاتك العابرة
تفاحي غيمٌ لم ترَه عين،
ولن،
تقطفه عيون عاهرة.
*المشاهد ( رسالة)
وفي نص رسالة، نجد ثلاث لوحات، وهي عبارة عن مشاهد درامية تؤكد نوعا من الصراع مع الآخر المتعدد، وكأننا أمام مشاهد درامية على الركح، فيها توجه الذات الخطاب بأسلوب الأمر ( صوروا جرائمكم/ وثِّقوا المجازر / وثقوا صمت الصامتين / اِسألوا الحزن في عيونهم / اسألوا قلوب الحاضرين ...) ولم يكن الأمر هنا سوى خروج عن مقتضى الظاهر. فالواحد ضد الجماعة، مما جعل الخطاب مشبعا بغنائية لا تحيد عن توجيه الرسالة للمتلقي واستنهاض همته. ولما ارتبط الأمر بقضية القتل في إشارة لما يحدث من إبادة للشعوب المستضعفة، فالخطاب موجه لقاتل الشعب الفلسطيني المسلم، بدلالة الأمل في ولادة جديدة والتمسك بحب الله. تقول الشاعرة في قصيدة( الجرح جراح لم تنته)
ذكر! أن القدس وجهتنا.
إن لم يكن اليوم فبعد غد.
الشعارات ماتت وبعض
الحروف، والقصائد والمنى.
والقدس لم تزل زهرة المدائن.
إن الشاعرة عبرت بأساليب واضحة وبسيطة، لم تمنع من إنشاء الصورة الشعرية المعبرة عن رؤيتها الجمالية دون تمحل أو تكلف يفضي إلى الغموض. وفي ذلك دلالة على شعرية تمتح من التجربة الخاصة عمق العبارة، التي ساهم في تكوينها موقف الذات من القيم المنهارة في هذا العالم، الذي أصبح مسرحا للتمزق والانشطار. فاكتست الصورة الشعرية حلة جديدة تعكس قدرة الشاعرة على بعثها من لون الرماد، بصياغة سياقاتها، سواء على مستوى السطر الواحد، كقولها : ( سائح يجر الخطو / فلتنتصر خطاه على أشرطة القهر 43 - والغياب وصلة حنين يعزفها الزمان 74 - كالظل القادم بلا حدود 46 ...) أو على مستوى تشكيل الصورة من خلال مجموعة من الأجزاء، كقولها في قصيدة ( لوحة) :
أرواح تطل من بعيد،
على ضوء خافت في ذات باردة.
جدران وجدران،
تخفي الأمل.
يا أوراقي الماضية، تتناثرين
على الأرصفة المهجورة،
في انتظار رياح جديدة
أو في قصيدة (سوندرين)
هذه الشمس، تسمعنا
ضحكتها،
كلما أعلن للحب انتصار.
وقولها في نص (والدي) الذي يجمع بين حالتي الحزن والفرح، حيث يعسر إيجاد طريق للحفاظ على الانتساب بعيدا عن الاحتماء بالطبيعة، تقول:
والدي
كم يكفي من الحروف ؟
لأرسمك،
بين ضلوعي أشجارا.
فالصورة الشعرية في هذا المقطع من نص (والدي) منتزعة من ( الإنسان - الحروف – الضلوع – الأشجار) وهي تشكل موقع الذات كبؤرة لتفاعل الإنسان مع المشاعر والطبيعة، هكذا تحرض الشاعرة الدلالة، تلك المضمرة في نسقها الثقافي الموسوم بالزوال، وللشجر أن يحفظها من الضياع. ذلك النص المفتتح به الديوان (والدي) وهو رمز لاستمرار الحمولة النفسية في ثنايا الذات المحمومة بالسؤال عن معنى الوجود الإنساني وعن الفناء في الأشياء. ذلك قدر الشاعرة الذي أنبات به العرافة واعتبرت الجواب عنه خرافة لأسئلة منقوشة في الرماد. فظل الحنين مهمازا لامتداد تلوينات الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، وكأن الاحتماء بمعالم الأسطورة والطقس الديني الصوفي ملاذٌ لتصوير الوضع بعد الوقع، عن طريق التصوير الشعري رفعا جماليا عبر المتغيرات الأسلوبية التي تشي بحركية الصورة في بعدها الدرامي.
ولو حاولنا استقصاء البحث في الصورة الشعرية ما استطعنا، وسبيلنا أن نبادر القول، ونقول إن الشاعرة قد استوعبت أساليب الشعرية الحديثة، ساهم فيها تجربة الذات بين الأزمنة والأمكنة، وكان للهجرة معناها في استخلاص رؤية لا تركن لمعنى واحد، وإنما تستجيب للمتغيرات بأسلوب مغايرٍ قادر على احتواء الكتابة الشعرية .
وخلاصة القول إن شعرية المتغير الأسلوبي عند الشاعرة تعكس محاولة القبض على المستحيل، وهي نوع من المطاردة الشعرية التي تلاحق شعراء الحداثة الذين لا يطمئنون إلى رؤاهم، بحجة استحالة بلوغ الحقيقة. وهو ما يفسر بنية القلق الوجودي عند الشعراء، لأنهم يكتبون زيف الحياة بلغة منزاحة تتعالى على الوجود نفسه، فلا يستطيعون الكتابة خارجها.