مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

جدلية السرد والتأمل في مجموعة انكسار حلم للأديب أحمد البدري

2025-01-24 04:59 PM - 
جدلية السرد والتأمل  في مجموعة انكسار حلم للأديب أحمد البدري
الناقدة د.جيهان الشندويلى
منبر

جدلية السرد والتأمل وتجليات الإنسان بين الواقع والمجاز في مجموعة القصص القصيرة جدا "انكسار حلم" للأديب أحمد البدري

بقلم د. جيهان الشندويلى

القصة القصيرة جدا ليست مجرد نوع أدبي جديد، بل هي مساحة فنية شاسعة تختزل العالم في لحظة، وتكثف التجربة الإنسانية في كلمات معدودة.

نشأت القصة القصيرة جدا من رحم التحولات السردية الكبرى في الأدب العالمي، متأثرة بروح العصر الحديث الذي يمجد السرعة والاختزال، دون أن تفقد اتصالها بكل تناقضاتها و آلامها.

 إن مجموعة القصص القصيرة جدا "انكسار حلم" للأديب أحمد البدري، الصادرة عن  مؤسسة غايا للإبداع، تحفل بتجارب إنسانية عميقة ومكثفة تتجلى في أكثر من محور، كأنها لوحة تتحرك أمامنا، وتستعرض تشظيات الحلم الإنساني عبر قصص قصيرة جدًا، كما تُظهر قدرة الأديب على التنويع و القص، واستبطان ما في قلوب شخصيات قصصه ، فهو يكتب لدوافع وجدانية، وينسج قصصه على إيقاع الذكريات والحنين والشوق.

تقدم المجموعة تجربة أدبية غنية تعكس فيها القصص تفاعلا عميقا بين الذات و الواقع، بين اللغة – كوسيلة تعبيرية وأداة مسيطرة – والسرد كأداة لتأطير الحكايات.

فكل قصة تبدو كنافذة تطل على عالم داخلي غني بالأحاسيس و الصراعات، ونلاحظ في المجموعة أن الحكاية ليست الغاية بل وسيلة لاستكشاف الحالة الإنسانية، كما أننا نجد لدى القاص التوازن بين الفكرة عمقا، وأصالة، وتجديدا، وبين عرضها بأسلوب القصة وتقنياتها؛ التي تساير أي زمان تُقرأ فيه.

تشتمل المجموعة القصصية على ست وأربعين قصة قصيرة جدا، تتأرجح عنواناتها بين المبهج مثال: بسمات جدي- رحلة صباحية- وردة ليلية -رقصة تأمل – ماهر،  كذلك نجد لمسة الحزن على بعض القصص مثال ورقة خريف أخيرة – حلم رث – سجن الروح - مرثية حلم.

في البداية عنوان المجموعة القصصية "انكسار حلم" جاءت كلمة انكسارمصدرية لكي توحي بديمومة الألم والأثر، وهناك دلالة مكتنزة خلف هذا الاسم؛ فتنكير كلمة"حلم" التي وقعت موقع الخبر تتضمن إشارة إلى العموم كذلك تتضمن دلالة تهميش هذا الحلم في الوقت ذاته، ولعل دلالة العموم هي الأقوى لإكمالها المعنى بعد كلمة انكسارالتي جاءت هي الأخرى نكرة.

اللغة شعرية، مليئة بالاستعارات والصور البليغة التي تضيف عمقًا عاطفيًا للنصوص و تتخلل النصوص عبارات تستحضر مشاهد حسية وحالات وجدانية مثل

"ظلّت القهوة تقاوم حدود الفنجان بجدرانه السميكة"

"الشمس تصهر الأجساد على الصخور"

براعة الوصف وخلق الصور الشعرية بالإضافة إلى انسجام النبرة السردية مع أجواء الحكايات المفعمة بالتأمل فيما اعتمدت القصص على التشظي والسرد غير التقليدي كما اعتمد الكاتب على المنولوج لإبراز الصراع الداخلي للشخصيات وعلى تصوير المكان و الزمان بشفافية، كذلك قلب وتحويل واقع الألم إلى واقع صاف تتآزر صوره وموسيقاه ودلالاته، وينقل الواقع المعيش نقلا دقيقا بالاعتماد على الرمز واللغة.

القضية الأكثر انتشارًا في مجموعة "انكسار حلم": صراع الذات في مواجهة الواقع

الحلم، كموضوع رئيس في المجموعة، يتكرر بشكل رمزي ليعبر عن طموحات الشخصيات وتطلعاتها المجهضة أمام ضغوط الواقع القاسي، هذه الثنائية بين الحلم (كمصدر للأمل) والواقع (كمصدر للخسارة) تشكل جوهر المجموعة، مما يجعلها محورًا نقديًا غنيًا.

مجموعة "انكسار حلم" ليست مجرد عمل سردي، بل هي دعوة للتأمل في ماهية الإنسان وأحلامه المتعثرة، في علاقته بالزمن واللغة، وفي قدرته على الصمود رغم الانكسار.

من خلال جدلية السرد والتأمل، قدم أحمد البدري نصوصًا تحمل لغة شعرية مكثفة وتجارب إنسانية غنية، مما يجعلها مرآة حقيقية للصراع الإنساني مع الذات والواقع

 فقصة "رحلة صباحية" تمثل نموذجا غنيا للجدلية التي تطرحها محموعة "انكسار حلم"، تتناول القصة ثيمة شائعة لكنها معقدة، الصراع مع الروتين اليومي الذي يختزل الإنسان إلى مجرد ترس في آلة الحياة، تبدأ القصة بوصف رحلة العمل اليومية لشخصية محورية تلتقي بالعزلة و الخوف في آن واحد.

 " يشق الظلام وحيدا، يحتمي بأنفاسه وسحائب البخار المنبعثة من داخله، يتسول منها الدفء".

هذا الوصف يعكس حالة الاغتراب الداخلي التي يعيشها البطل، حيث لا تقدم الحياة له سوى صقيع مادي و معنوي، يجبره على البحث عن الدفء و الاستقرار في أبسط تفاصيلها.

نجد أن اللغة تمزج بين الشعرية والواقعية، ما يجعلها نابضة بالمشاعر والدلالات

" النعاس المطل من النوافذ حوله ينثر عطره عليه وعلى الشوارع" هذا التصوير يجعل من النعاس كيانا حيا يهيمن على العالم، مما يضفي بعدا تأمليا على النص.

" يتسلل النعاس إليه، تتسابق الأحلام في احتلال جفنيه ".

هنا، اللغة تحمل بعدا فلسفيا، حيث الأحلام ليست وسيلة للهروب، بل أداة لإعادة تشكيل الواقع المتعب.

القصة اعتمدت على سرد لحظي ظاهري، حيث تبدأ بوصف رحلة البطل اليومية إلى العمل، لكن البناء الحقيقي يتشكل من جدلية داخلية بين العالم الخارجي حيث البرد، الظلام، الشوارع، وزملاء العمل.

العالم الداخلي: الخوف، الحلم، والحنين إلى الدفء المفقود.

نجد إنه رغم الحركة الظاهرية وهي الذهاب للعمل، يعيش البطل حالة جمود داخلي و صراع مع الزمن، حيث يبدو أن الخارج يطبق عليه ويستنزف روحه.

"يلقي بنفسه على المقعد المخصص له، يحصل على قليل من الدفء من أنفاس النائمين حوله".

هذا المشهد يكثف الصراع بين الفرد والجماعة، حيث الدفء ليس سوى بقايا الآخرين، في إشارة إلى هشاشة العلاقات الإنسانية.

 تنتهي القصة بمشهد سقوط البطل وصراخه، في لحظة تجمع بين الألم الجسدي والانكسار النفسي

" تدفق الجميع نحو سلم الباص المعوج؛ نتيجة الاندفاع من خلفه طار جسده في الهواء."

" نظر إليه الجميع وهم مسرعون نحو دفاتر الحضور ليثبتوا يوما جديدا"

هذا التصوير يبرز لامبالاة المجتمع، حيث تحول الفرد إلى مجرد رقم في منظومة عمل لا تعترف بإنسانيته.

ونقرأ في قصة "بسمات جدي":

" صفحات التاريخ لا تكتب إلا ما يريد السلاطين تدوينه، لذا عمّق فينا هذا الجد أن نمزح وننقش تاريخنا بين أضلعنا"

  النص يعبرعن العلاقة بين الذاكرة و الهوية، في صراع الإرث الثقافي و الإنساني،كما يعتمد على الرمز، ما يجعله مفتوحا على قراءات متعددة، مثل" ذاكرة فولاذية مدون عليها إرث الأجداد"

فالعنوان يثير مفارقة بين "البسمات" كرمزللفرح و بين جد يبدوغارقا في الحزن و الوجع، مما يلمح إلى عمق الشخصية وتناقضاتها، الجد هنا ليس مجرد شخص، بل هو رمز للتاريخ والإرث؛ وجسر بين الماضي والحاضر، ينقل الأحداث عبر الأجيال ابتسامته الهشة تعكس صراعه بين شعوره بالمسؤولية تجاه هذا الإرث وحمله الثقيل على كاهله، فالجد يجمع بين الهشاشة الجسدية والقوة الروحية، النص يعالج فكرة الإرث بوصفه ذاكره جمعية تنتقل شفهيا و تتشكل داخل وجدان الأجيال الجديدة

مجموعة "انكسار حلم" تضع  البدري في مصاف الكُتّاب الذين يجيدون تحويل اللحظة العابرة إلى عمل أدبي نابض عبر استخدامه المكثف لأسلوب الاستبطان، فيدخل الأديب في عوالمه الداخلية ليكشف عن آلامه وحيرته ،القصص هي رحلة استكشافية للذات في مواجهة التحديات الشخصية وواحدة من السمات البارزة في "انكسار حلم" هي الوحدة العاطفية والانعزال الداخلي الذي يعيشه الكاتب  إلا أن هناك أيضًا نوعا من التوق إلى الخلاص والتغيير.

 

 

مساحة إعلانية