مساحة إعلانية
تحلق الأطفال في حلقة دائرية، يتطلعون إلى الطفلة السمراء النحيفة وهي تنط الحبل بخفة ورعونة، فهي تقوم بعمل حركات استعراضية به كأنها باليرينا، يصفق الجميع لها وهم يعدون من الواحد صعودا للمائة حتى تتعب وتتعثر ويأخذ غيرها الحبل ليلعب، ظلت تقفز بالحبل دون كلل وتعب، وقبل أن تصل للمائة تخلت عن الحبل وتركته لغيرها رغماً عنها. بعدما صاحت بها أختها لتخبرها أن الغداء قد وضع بالفعل على الطبلية، وأكدت عليها إن لم تأت مسرعة الآن لن يتبقى لها طعاما، هرولت مسرعة في اتجاه بيتهم ولم تلتفت لنداءات الصغار لتكمل المائة قفزة، اندست وسط إخوتها وهي تزاحمهم ليفسحوا لها مكانا، أكلت بنهم وشراهة كأنها لم تذق الطعام منذ أيام. تمدد الجميع بجوار بعضهم البعض بعد احتساء الشاي، أما هي فتسللت إلى السطح للعب بقوالب الطوب التي أحضرها والدها بالأمس، الآن الجميع نيام.. وتستطيع تنفيذ ما تخطط له لأيام مضت، فهي لم تكن لتضيع فرصة لن تُسنح لها ثانية من أجل نوم القيلولة، تسللت إلى السطح ومعها رفاقها بعدما استدعتهم من الشارع، وقفت في وسط السطح، وأخذت تلتف يمنة ويسرة وهي ممسكة رأسها بيديها كأنها ترسم تصورا ما، ابتسمت بعدما توصلت لقرار، ومن ثم تحركت باندفاع تجاه قوالب الطوب المرصوصة بعضها فوق بعض، وقفت فوق برميل حديدي صدىء بعدما قلبته رأسا على عقب لتستطيع الوقف عليه، حملت قوالب الطوب وناولتها لأصدقائها حتى خلفت وراءها كوم من الطوب غير المرصوص، وقفت عند الجهة اليمنى للسطح وطلبت منهم إحضار قوالب الطوب واحدًا واحدًا حتى لا تنكسر، راحت ترص في ذكاء قوالب الطوب بعضها فوق بعض حتى انتهت، وقفت من بعيد تنظر لما صنعته يديها، لقد صنعت سريرًا، اثنان من الكومود موضوعان بجواره، تسريحة فوقها قطعة مرآة مكسورة أحضرتها من أسفل، تحركت يسرة، واستمرت في رص القوالب حتى صنعت أريكة وبجوارها كرسيين يتوسطهم طاولة من الطوب يغطيها قطعة قماش قديمة وجدتها على كومة من المخلفات قرب باب السطح، فوقها برطمانا زجاجيا عليه صورة لقطع التين مدون عليها "مربي تين قها" وضعت به وردة بلاستيكية كانت قد حصلت عليها من فرح جارة لهم، التفتت لتكمل مهمتها وقامت بصنع قطعة سفلية تشبه خزانة المطبخ، رصت بداخلها علب تونه فارغة، أواني قديمة أخذتها من عشة الطيور، بابور جاز نحاسي لا يعمل، وعلى طاولة من الطوب وضعت مخلفات طعام. جلست تستريح هي والرفاق بعد الانتهاء من المهمة الشاقة التي استمرت لأكثر من ساعتين. ابتسمت لهم وشكرتهم على المساعدة ووعدتهم باللعب معها يوميًا في شقتها التي صنعتها لنفسها والعيش فيها بدلًا من دسها وسط اخوتها الثمانية ووالديها في غرفة واحدة بجوار حظيرة البهائم، قفزوا بفرحة وراحوا يلعبون، قسموا انفسهم لفريق يجلس على الأريكة كأنهم ضيوف وفريق يقوم بالطبخ الوهمي، وضعت في علبة صفيح التراب وفوقه شعور كيزان الذرة، وفي إناء أخر وضعت أقماع الباذنجان وقشر البطاطا، قلبت المكونات بعصاة خشبية صغيرة، ومن بعدها أفرغت المحتويات في علب التونة الفارغة زينتها بقطع الجرجير المتبقية من الغداء، قدمتها للرفاق، حمل كل واحد علبة من التونة وأخذوا يتظاهرون بتناول الطعام وهم يضحكون ويثرثرون، انطلقت الضحكات من قلبهم صافية خلابة، فهم لا يعيلون همًا للدنيا كل همهم الضحك واللعب ، جلست تتوسطهم وهي تتقمص دور أمهم في هذه اللعبة، لذا ارتدت جلباب والدتها، رفعت بيديها اليسرى طرف الجلباب حتى لا تتعثر أثناء حركتها، لملمت شعراتها المجعدة بقطعة من القماش، لفت رأسها بشال أمها الأسود عدة لفات.. في النهاية بدت كأنها نسخة مصغرة من أمها، ظلوا يلقون النكات فتعالت صوت ضحكاتهم. صعد أبيها كي يحضر غرضًا من السطح، تسمر في مكانه من هول ما رأى لقد تحولت قوالب الطوب المرصوصة بعناية ودقة فوق بعضها البعض إلى أشلاء، لم تكن أشلاء بالمعنى الحرفي، لكنه رآها أشلاء مبعثرة على طول سطح منزله، بعدما كانت مرصوصة بعناية في مكان واحد. لم يدرِ بنفسه تحركت يداه وسحب عودًا من الحطب الجاف وهرول وراء الأطفال وهو يسب ويلعن وعندما مسك أخر طفل بعدما قفز الجميع بطيش تجاه السلم، أخبره أن ابنته هي من طلبت منه مساعدتها، صاح في أبنائه كي يساعداه في إعادة ترتيب القوالب مجددًا، ارتاح قلبه وهدأت أنفاسه المتلاحقة بعدما تفقد القوالب واطمأن أنها لم تنكسر ، فهو لم يكن في استطاعته شراء غيرها، وقفت عند نهاية السلم تختلس إليه النظر، دمعت عينيها بعدما رأت شقتها تنهار، تمنت لو ترك ما صنعته أسبوعا أو حتى يومًا أو يومين ، فهو لن يقوم ببناء السطح إلا بعد جمع نقود الرمل والاسمنت والواح الخشب التي سيضعها فوق الغرف حتى تقيهم الحر والبرد، لكنه لم يصبر ووأد حلمها. لمحت والدها يتحرك تجاه السلم فهرولت حتى لا يلحق بها ويضربها، تعثرت خطواتها وهي تهرول فسقطت على الأرض، لمحها أبيها هرول ناحيتها، أمسك بها وبعد تأكده من أنها لم تنكسر، لطم وجهها عدة لطمات، اتبعها بلطمة على الرأس والجنب وأخرى على ظهرها، بكت بصوت عال واعتذرت عن فعلتها وأخبرته أنها لن تكررها مرة أخرى، نظرت لأعلى وازدادت في نحيبها بعدما وجدت اخواتها الثمانية يترصون على السلم ويضحكون بسخرية منها، لم تكن المرة الأولي التي تتلقى فيها اللطمات ولم تكن المرة الأولى التي يسخرون منها،
فوالدها يصفعها يوميًا وان لم يكن هو تكون والدتها، ومن ثم يسخر الأخوة منها، فهي طفلة لم تكن يوما هادئة، من يوم ولادتها وهي مشاغبة مناكفة، تصمم على ما في رأسها، وبرغم أن والدها كان يدللها أحيانا دون باقي اخواتها إلا إنه في كثير من المرات يضيق منها ذرعا وينهال عليها بالضرب؛ كي ينصلح حالها، لكنها برغم ما تلقته من ضرب لم تغير طيشها. هرولت تجاه فرشتها ودفست رأسها في الوسادة المصنوعة من القطن مع قليل من القش الذي وضعته أمها بعدما هبط القطن، غطت في نوم عميق حتى استيقظت بعد منتصف الليل، نظرت حولها لم تجد سوى الظلام في الغرفة، فالجميع في سبات عميق، تسللت تجاه مدخل البيت المنير على لمبة من الكيروسين ومنه إلى الحظيرة؛ لتفرغ مثانتها في بيت الراحة الموجود بنهايتها، انتهت وبعدها شعرت بالجوع، تحركت تجاه بير السلم لتطعم عصافير معدتها التي تزقزق، نظرت في المشنة (قفص من الخوص)فلم تجد سوى فتات من الخبز الجاف وبعضًا من الجبن القريش والمش الذي يسبح فيه الدود، أحضرت الخبز وسكبت فوقه القليل من الماء، فردت فوقه قطعة الجبن ومن فوقها شرائح الطماطم، نزعت غطاء البراد لتجد قليلًا من الشاي المتبقي منهم، سكبت فوقه قليلًا من الماء وبعضًا من السكر، وضعتهم فوق الوابور بعد عدة محاولات لإشعاله، افرغت الشاي في كوب من الزجاج بعد غليه، راحت تقضم قطعة من الخبز ووراءها رشفة من كوب الشاي حتى انتهت. تحركت في الظلام للخلود للنوم مجددًا، ظلت تتقلب على جنباتها وهي تتذكر صفعات والدها وبيتها الذي هدمه ولم تستمتع باللعب فيه حتى ولو لساعتين، الساعتان اللتان استغرقتهما في بناءه، ولم تأخذ قسطا من الراحة حتى ولو لدقائق إلا بعدما انتهت، جفاها النوم وهرب من جفنيها بعدما بلل الدمع على وجنتيها، جففت دمعها وعادت الابتسامة لوجهها بعدما خطرت ببالها فكرة، قفزت من مرقدها، حملت لمبة الكيروسين وصعدت تجاه السطح لتبحث عن الصندوق الخشبي الكبير، فتحته وافرغت محتوياته حتى وصلت لحقيبة من القماش، افترشت الأرض وعلى ضوء اللمبة أخذت تبحث عن كراسة الرسم التي استغرق شراؤها ادخار أسبوع من مصروفها، قفزت من الفرحة عندما وجدتها وسط كراسات ممتلئة بالكتابة للنصف، تحتفظ بها أمها حتى يحين موعد العام الدراسي الجديد فتقوم بقطع الورق المكتوب وتلصق الأوراق البيضاء ببعضها البعض حتى تصنع كراسة لها، عانقت الكراسة بفرحة، أعادت كل شيء لمكانه، فتحت كراستها وراحت تقسم الصفحة لأربعة أجزاء أفقية، رسمت بجزئها الثاني منزلًا كبيرًا به كل ما تشاء أمامه سيارة ملاكي، والجزء الأعلى السحاب وقرص الشمس يبرز منه وطيور تحلق في السماء، أما باقي الصفحة رسمت جزء به بحر وجزء به حديقة بها ورود وأشجار. ظلت ترسم حتى بزغت الشمس من جهة الشرق، رفعت الرسمة للأعلى تجاه الشمس،أخذت تحدق بها بزهو ونشوة وهي تردد " سيأتي يومٌ وأمتلك منزًلا مثل هذا"