مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

| المهرّج ... قصة هيثم همامون - المغرب

2024-09-19 16:26:54 -  تحديث:  2024-09-19 16:39:52 - 
| المهرّج ...  قصة  هيثم همامون - المغرب
هيثم همامون - المغرب
منبر

التلال السامقة ترفق بأذيال الحنين على البلدة الإنجليزيّة الخضراء، تطلّ بحنق على المنازل الصغيرة المتراصّة على طول الطرق المغبرّة، تعانق أمواج ريّاح طافية فوق سماء علبة العجائب المجهولة. تتصارع العصافير بتغاريدها العذبة منضويّة تحت ظلال حنين أشجار البلوط الضاربة في ربوع المكان. تتوارى عن الأنظار كلّما دلفت نزولا إلى لبّ المكان.. والقرية لوحة جصيّة تشيح وجه الكنائس الكاثوليكيّة الفخمة، تتراقص ألوانها الزاهيّة ممتزجة بحروف الرقّة، والعذوبة، والجمال، لا يتجلّى جمالها إلاّ عند كل خطوة حنين يترقرق بين أضلاع الأشجار الكستنائيّة الوارفة الأغصان، كما تعالج حنين الفراق عند كل عودة، جاذبة لأشواق اللذّات، معالجة لتكبيل القلوب وترطيب العيون اليابسة.
تتكالب الأحجار على عجلات العربة الخشبيّة. يحاول فيليب تجاوز العقبات، ويجاري بوجهه الحزين، العليل، لجام حصانه الفاحم السواد، قبل أن يسرح وجهه الصّبوح تارة بالسماحة عن الذكاء، يطرد الكوابيس المبطّنة بين ثنايا الأحلام...تتابع العربة الصغيرة الطريق بهدوء، يسبق عاصفة الرعود، فقد حلّت مشاعر إشفاق ومؤانسة لأولئك الصبايا المساكين، ما فتئوا ينتظرون من يرش عليهم عبق البهجة والسرور، بطريقة مضحكة، ينخرطون فيها على الدّوام بمعاطف السينما، والحركات البهلوانيّة التي تعوّدوا عليها من البهلوان العجوز. 
تتداخل الأصوات والنداءات ذلك الصباح. أمّا الشمس فتلامس أسطح البيوت الخشبيّة المنحنيّة التي تكاد تعانق الأرض من شدّة قصرها، وتبتلع ظلال الأشجار في قرية بيكفوت.
كانت الشمس نصف قرص برتقاليّ هائل، يقترب شيئا فشيئا من عربة السيرك، يجول فيليب كالطيور المهاجرة الموسميّة مخترقا أراضي إنجلترا، كالمحراث، باحثا عن حيوات جديدة، يقدّم عروضه البهلوانيّة على مدار أيام قليلة في القرية الواحدة، تاركا الاشتيّاق يكتنف المكان قبل أن يفكّ أسرارها من جديد. يقيم في بيته المتنقّل على عجلات الحياة، فيه يعدّ وجباته، وزينته البهلوانيّة...تتراقص الأهازيج على لواحاته الإعلانية الوحيدة، أصوات طقطقة عربته الباليّة، وصوت حصانه الهجين، معلنا عن قدوم من يشاركهم الأفراح والأتراح في تعايش مستمرّ. بعد فراق طويل، تعود الدّربة على تخليق الجوّ بالألعاب والأنشطة العفيفة. غالبا ما يطول انتظارهم له، حتّى الكبار بدورهم تشرئبّ جفونهم بعدما اغتصبتها الهموم. وملامحهم الطفوليّة تغرورق بعدما طوّقتها كلاليب الوحدة والشرود.
يلجأ إلى العلف ليشعر حصانه بالاهتمام، يروّض به العقبات، والمطبّات الصعبة، تحت موسيقى طقطقة الحصى بحذوة الحصان. تتماوج العربة عند الحفر، وتتراقص نافذتيها البنيّتين كمنشفات على حبل الغسيل، صغيرة متهالكة، تخفي تشققاتها وتطيل تماسكها تحت قناع إكسسوارات فيليب عند التّرحال. تتزيّن العربة بألوان برتقالية مختلفة الفوارق البسيطة، مقموعة بنجمات شماليّة ذهبية في الجانبين توحي بأضواء مصابيح الاستصباح التي تلفّ سماء موريتانيا بعد عاصفة رمليّة جائحة. وحده اللّون البرتقاليّ يحفظ للعربة ماء الوجه الكتوم، الشاحب...يتابع بعينين حانقتين قارعة الطريق، مستغربا في قرارة نفسه كلّ هذه الحشود، جماهير هبّت من كلّ حدب وصوب، مختلفة الطبقات والأعمار، متعة لا حدود لها تسبر أغوار فيليب. ينخس حصانه بلطف وكـأنّه يراقصه ويعده بوجبة حبوب الشعير الدّسمة...يتفاهمان على كلّ صغيرة وكبيرة كزوجين زفّا لبعضهما البعض، بغض النظر عن مستواهما الفئوي، فالميّت عقيم ولو كان آدميّا، والحيّ أصيل ولو كان حيوانا. 
محى الدّهر حاجبيه الأبيضين، ذو رأس مفلطح تستوي فيه القبعة الجلديّة برتابة واضحة لا تزعزعها ريح. واندلقت الجفون، تخفي صلابة السنين المتجبرة. رغم ذلك تحتفظ الخدود المحبوكة كالغزل أسرار غرائب السفريّات وعجائبها. للوجه البوميّ شفتين رقيقتين كشفرات السكاكين تقطع وجهه الكاهل الصبوح بابتسامات حزينة – لا يأتي في باله سواها – فيما عدا آلام هنا وهناك يبحث لها عن طبيب.
ترنّ النوافذ بصفاقة الأطفال، بفرح بعد طول انتظار، تخرج القرية كأسراب الوحوش النهمة دفعة واحدة من عقالها اللاإراديّ، بعضها يجد صعوبة في الوقوف، والآخر يمشي مستويّا غير متبرّم، يحشرون في الساحة البدائيّة للقرية. يتحلقون كخاتم سندريلا المفقود، يبحث عن يد تلائم أقنعة البهجة بعد طول غياب، وأصبع ساحر ينقلهم إلى عالم الخيال والإثارة.
لم تعقه بدانته تحت بدلة كلاسيكيّة سوداء وربطة عنق كالفراشة عن التّنطّط بطريقة بهلوانيّة من على العربة. متكأ على عصاه السحريّة الخيزرانيّة، ما إن لامس حذاء رعاة البقر الجلديّ البسيطة حتّى اعتلى خشبة المسرح، ملوّحا بقبعته على وجه السرعة. كانت المرّة العاشرة التّي يزور فيها القرية...عيناه تشرقان بطيبة واضحة، يبادله الأطفال والشبّان نفس الإبهار والمتعة. طيلة الحلقة كانت سحنته معلّقة في الفراغ، ينسلّ إلى عربته راضيّا غير عابئ بما ينتظره من كوابيس اللّيل، تهجم عليه على حين غرّة فتخاصم جفونه النّوم. تناصح بينه وبين نفسه بالذّهاب إلى طبيب مشهور في تلك القرية، لعلّه السبب الوحيد للقدوم هذه المرّة.
وسط هتافات صاخبة للجمهور، يمسّد وجهه ببودرة بيضاء، سابغا جفونه بألوان زاهيّة سوداء تعيد له ريعان الشّباب، وتروي به رواء الصبا، يلصق كرة حمراء توتيّة على أنفه الأفطس متحملاّ نذوب الزّمن، نكأت في ذاكرته تلك الأيام الخوالي، عندما تشاطره الزّوج سيجارة الحياة، ويقرفص قرده الرمادي تحت تصفيق الجماهير، أمّا الآن فقد رمى به الدّهر تحت أعماق ملعبه المجنون، لا يستطيع تجاوز الذّكريات إلاّ وراء قناعه الوحيد، يطلب رصاصة الرحمة بين يدي الحنين.
لمّا سرّح شعيراته الفتيّة، المعدودة على رؤوس الأصابع أخفاها بطربوشه البهلواني المخروط، ثمّ ذاب في ثيابه الرثّة الصفراء، كصفار بيضة يكتنفه بياض الكهولة، وأجواء إنجلترا الشتويّة أغلبيّة الأحيان. تحرّر من عبء الواقع ليدخل الحقيقة مطرقا بوجهه في المرآة، يخفي عاهة العنفوان والشباب. رجلاه لا تطاوعانه هذه المرّة في حذائه العريض كفلوكة بحرية مقوسة الرأس، يتبختر بها تحت استهجان الدّهماء تارة واستحبابهم لردّ فعله تارة أخرى. كان يتماسك بعد طول انتظار حيث تتزاحم الأصوات، والتّصفير، فالأصابع متجهة إليه، والكلّ يصلّي جهة البهلوان، ومعلّقون في الفراغ الصباحيّ كدمى ثاويّة. شرعت الأرض تدور حوله كنجم حلّ من بعيد. يراقص الكرات بالأيدي في شتى الجوانب مبهرا أعين البسطاء، يزيد ولا يبالي، دون كلل أو ملل، يترقبون متى السّقوط، لكن هيهات فالتجارب تسجد على أعتابها العقول، لم تعد اللوحة كلاسيكيّة كما عهدتها الساكنة، فالشاب العجوز استباح الحلقة بمشاركات مختلفة، ممّا خلق ارتسامة مرئية على الوجوه، يسعد بسعادتهم، رغم أشواك الكهولة التي ما فتئت تمغص عليه ابتساماته وسط الحلقة. يهيّج تيّارات الإعجاب المطوّقة للمكان، وكلّما استحال الأمر وصعب بشكل ملحوظ، تعاطفت كفوفهم بالتصفيق والتشجيع، فيفرك صلعته النّاصعة، متظاهرا بالصعوبة، حائرا، لا ينبس ببنت شفة، فجأة تسقط شفاههم السفلى من الإعجاز بمكان، فلا تسمع إلاّ همسا...كيف فعلها؟ واو! أمي أنظري...تسقط آياتهم المقدّسة على سفوح الجبال، ليبعث إيمان أنواره الساطعة على تأوّهاتهم الآسنة بين اليقظة والنوم.
كان النهار قد انتصف حين أنهى فيليب آخر عروضه البهلوانيّة، تفوّق على المسرح بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، كيف لا وقد داع صيته في ربوع المعمور، يقدّم المتعة في أبهى حلّة. يجد الأطفال متعة في تفاعلاته معهم. القرية اندمجت مع البهلوان داخل وعي جماعيّ واحد، في انسياب يأخذ الألباب والحواس. وقفوا وقفة واحدة يهلّلون بالتّصفيق الحارّ، والأيادي لا تطاوعهم، فمن ذا الّذي يريد انتهاء العرض؟ لكن مازالت التّسليّة مستمرّة ليوم غد. أما فيليب لا همّ يخالجه إلاّ زيارة الطبيب الّذي حلّ جديدا بالقرية، يخطف زيّارات شهريّة من حين لآخر.
في تلك الآونة ارتدى ثياب الواقع ليعطف على ابتسامته الغريبة. يتمنّى شفاء يأتي أو قد لا يأتي على يدي الطبيب المشهور. ودون أن يطلب أجرا على عرضه، تهاوت عليه القطع النقديّة من فئة شلن كالسّيل العرم. وكما يقال: "إذا هبّت ريّاحك فاغتنمها"، هكذا بدى الأمر لفيليب. ثمّ تجرّأ على شوارع المكان كأحد ساكنيه متخفيّا، حتّى استوقفه جمع غفير تلك الظهيرة. تتصارع الأكتاف للدّخول عند الطّبيب. حاول الالتزام بالصّفّ، لكنّ البهلوان وجد نفسه أمام الطبيب فجأة. تقلّصت ملامحه وازداد وجهه صفرة غمرها شرود غريب. سادت غمامة كثيفة، كانت تحجب عنه العالم والطبيب. بدأت تنفرج من أمام عينيه بعد الفحص، طرق على ركبتيه بمطرقة صغيرة طرقتين متتاليّتين. أتبعها بتفحّص اللّوزتين والغدد، بعد تفقّد مضن، كمن يبحث عن إبرة في كومة قشّ. انتاب الطبيب قلق غريب:
-كلّ شيء سليم، لا شيء يدعو للقلق
ثمّ واصل الكلام:
-قد تكون العلّة نفسيّة، لا عليك، شاهد عروض البهلوان فيليب، ستعود عليك بفائدة كبيرة، وستزول علّتك تماما.

مساحة إعلانية