مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

شحاته زكريا يكتب :من نيويورك إلى غزة.. متى تسقط ورقة التوت الأخيرة؟

2025-09-28 13:59:45 - 
شحاته زكريا يكتب :من نيويورك إلى غزة.. متى تسقط ورقة التوت الأخيرة؟
شحاتة زكريا
منبر

في كل سبتمبر تجتمع الأمم المتحدة في نيويورك لتجدد طقوس الخطابة والبيانات ، وتستعرض الدول كلماتها على منبر صنع أساسا ليكون منصة العدالة العالمية. غير أن الواقع يقول إن غزة المحاصرة منذ سنوات والدم الفلسطيني المسفوك منذ عقود لا يجد في هذا المهرجان الدولي سوى صدى باهتا يتردد بين القاعات ، قبل أن يذوب في ممرات الدبلوماسية الباردة. وهنا يصبح السؤال مشروعا: متى تسقط ورقة التوت الأخيرة عن هذا النظام الدولي الذي يتزين بالشعارات ويعجز عن حماية أبسط حقوق الإنسان؟

من نيويورك حيث تكتب القوى الكبرى نصوصها على مقاس مصالحها إلى غزة التي تعيش تحت حصار يكاد يخنق أنفاسها يطلّ التناقض فاضحا. فالمنصة التي شهدت صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تُستخدم اليوم كأداة لتبييض ممارسات بعض القوى بينما تُخنق أصوات الضحايا بحجة التوازن والواقعية السياسية. وبينما تتحدث الوفود عن "حل الدولتين" يُهدم بيت في نابلس ويُقصف مخيم في رفح وتضاف إلى ذاكرة الفلسطينيين مأساة جديدة كأنها فصل مكرر من رواية لا يريد أحد أن يكتب نهايتها العادلة.

اللافت أن الخطابات الرنانة لم تعد تملك القدرة على الإقناع. فالعالم بات يرى الصور الحية من غزة قبل أن تُلقى أي كلمة في نيويورك. لقد صار الدم أبلغ من البلاغة وصارت مشاهد الأطفال تحت الركام أصدق من كل النصوص المعدة بعناية. هنا تتجلى المفارقة المرة: ما جدوى المنصات الدولية إذا كانت عاجزة عن وقف إطلاق النار أو رفع حصار أو ضمان دواء لطفل مريض؟

إن ورقة التوت التي يحاول النظام الدولي أن يغطي بها عجزه تتساقط كل يوم أمام عيون الشعوب. فحين تُستخدم الفيتوهات المتكررة لتعطيل قرارات إنسانية بحتة وحين تتحول العدالة إلى سلعة خاضعة للمساومة فإن الخطاب الرسمي يفقد هيبته ويغدو مكشوفا بلا غطاء. لقد سقط كثير من الأقنعة من قبل غير أن ما يحدث اليوم يكاد يكون اللحظة الأشد وضوحا في فضح الازدواجية: عالم يتشدق بالديمقراطية بينما يقبل أن تظل غزة مختنقة بين الجدران والأسلاك.

من غزة نفسها ينبع المعنى الأعمق. فهذه المدينة الصغيرة رغم آلامها التي لا تنتهي ، تحولت إلى مرآة كبرى تعكس هشاشة المنظومة الدولية. في صمودها ما يفوق تقارير الأمم المتحدة وفي دموع أمهاتها ما يفضح ازدواجية المعايير وفي تمسكها بالحياة ما ينسف كل الادعاءات حول استحالة التغيير. ربما لهذا تظل غزة حاضرة في الضمير الإنساني لأنها تذكّر العالم دائما بأن العدالة ليست ترفا بل شرطا للسلام الحقيقي.

لكن، هل يمكن أن يظل هذا الانكشاف بلا نهاية؟ التاريخ يعلمنا أن ورقة التوت مهما طال عمرها لا تصمد أمام رياح الحقائق. وأن النظام الدولي مهما تجمّل بالخطابات لن يحافظ على شرعيته ما لم يستطع أن يحقق شيئا ملموسا للضحايا. لقد سقطت من قبل أوراق مشابهة في تجارب الاستعمار والفصل العنصري وسيسقط الغطاء الحالي عاجلا أو آجلا إذا استمر التناقض بين القول والفعل.

من نيويورك إلى غزة ليس الفاصل مجرد آلاف الكيلومترات بل هو الفارق بين عالم يعيش على لغة المصالح وآخر يدفع ثمن تلك المصالح دما ودموعا. وبين الاثنين يقف ضمير الإنسانية على المحك. قد تتأخر لحظة الانتصار وقد يتكرر المشهد القاسي لكن التاريخ لا يرحم والحقيقة لا يمكن أن تُدفن تحت الركام. وحين تسقط ورقة التوت الأخيرة لن يجد النظام الدولي عذرا ولن يبقى أمام العالم سوى أن يعترف بفشله أو أن يختار طريقا جديدا أكثر عدلا وصدقا.

إن السؤال ليس ما إذا كانت الورقة ستسقط بل متى تسقط. وعندما يحدث ذلك سيكتشف العالم أن الشعوب لا المنصات هي التي تكتب التاريخ.

مساحة إعلانية