مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الغرفة رقم صفر .. قصة قصيرة للأديبة المتميزة : إيمان عنان

2025-06-14 05:19:07 - 
الغرفة رقم صفر .. قصة قصيرة للأديبة المتميزة : إيمان عنان
الأديبة إيمان عنان
منبر

بين أكوام الأوراق، والأختام الزرقاء، كعادتي جلست، أرتب بدلتي الرمادية الباهتة، خلف مكتبي الخشبي المتآكل أجلس. كنت أشعر أن هذا المكتب يخفي شيئًا، كأن عينًا صغيرة بداخله تراقبني، أو ربما نفسًا خافتًا يخرج منه ليلًا.
كوب الشاي الثقيل كان أمامي، وضعه الفراش دون أن أراه. 
الوجوه تمر عليَّ كثيرة، كلها متشابهة، باهتة، عيونهم زائغة، يطلبون توقيعًا، ختمًا، أو سؤالاً. أعمل ببطء، كأنني وحدي في هذا العالم،  ثلاثون عامًا هنا بلا فائدة ولا تقدير.
مدير متعجرف، موظفات لا يتوقفن عن الكلام، صوتهن كان غريبًا كأنهن لا يتحدثن وحدهن. كأن هناك من يهمس معهن… رجل عجوز، أو امرأة ميتة. أسمع الهمسات من خلف الجدران، ولا أرى أحدًا.
قالت لي إحداهُنَّ:
— هو ابنك في سنة كام يا أستاذ مغاوري؟
أجيت دون أن أنظر لها:
— تالتة إعدادي.
— ومعاكش غيره؟
— معايا حسنات.
ضحكت الأخرى:
—  والله اسمها حلو.
— سميناها حسنات… على اسم حماتي.
ضحكن، وضحك معهن صوت لم أعرف مصدره.
تقدمت امرأة مسنّة. وجهها شاحب. عيناها زجاجية تحمل ملفًا بيديها المرتعشتين. شعرت كأنها تنزلق بلا صوت.
بصوت ضعيف:
— يا ابني… أوراق المعاش واقفة على توقيعك. من شهور وأنا ألف… أرجوك.
اقتربت أكثر، لمحت تحت طرحتها شعرًا أبيض ناعمًا كالغبار… ورائحة قديمة كرائحة موتى. شعرت بشيء بارد يضغط على صدري… نفس الرائحة التي كنت أشمها في غرفة أمي قبل موتها.
سرت ارتعاشة في جسدي، فتحت الملف بسرعة. الورق كان رطبًا برغم جفاف الطقس،  وقعت ثم ختمت… الختم أصدر صوتًا مكتومًا غريبًا، تناولت العجوز الملف بفرح، رفعت عينيها لي مبتهلة:
— الله يرضى عليك يا بني.
نظرتْ إليَّ وقالت بهدوء:
— سلم لي على مراتك وابنك… وحسنات.
تجمدت في مكاني. كيف عرفت؟
لم أذكر أسماءهم لأحد هنا منذ سنين… حسنات ماتت مع أمها وابنها في الحريق… لم تبقَ لي إلا هذه الصورة القديمة التي احتفظ بها داخل الدرج.
انهيت العمل وعدت للبيت، كان الباب مفتوحًا برغم أنني أغلقته صباحًا. دخلت، وجدت الصورة على الطاولة… ليست في الدرج كما تركتها.
سمعت صوتًا خلفي:
— تأخرت يا مغاوري… كنا منتظرينك.
استدرت… رأيتهم. زوجتي، ابني، وحسنات… واقفين كما كانوا يوم الحريق… لكن أعينهم كانت بلا بريق، يبتسمون لي في صمت.

مساحة إعلانية