مساحة إعلانية
إذا كان الشعر قد بدأ - من حيث الشكل - قصيدة عمودية اعتمدت البيت الشعري كوحدة بنائية لها ، هذا البيت الشعري المموسق ، أي المعتمد علي موسيقي (موسيقي البيت الشعري نوعان : موسيقي داخلية تُعني بفنون البديع ، وتسمي موسيقي النظم ، ويشخصها جانبان مهمان ، وهما اختيار الكلمات وترتيبها من جهة ، ثم المشاكلة بين أصوات هذه الكلمات والمعاني التي تدل عليها من جهة أخري ..
وموسيقي خارجية تسمي بموسيقي العروض ، وهي تتمثل في تتابع التفعيلات الشعرية المعتمدة علي توالي الحركات والسكنات في نسق بعينه ، والتي هي قوام ما يسمي بالبحور الشعرية) . والبيت الشعري ينتهي بما يسمي بقافية القصيدة ، لذا أطلقوا علي هذا الفن القولي لفظ "الشعر الموزون المقفي" ، دام ذلك بدءا بالعصر الجاهلى ، ثم عصر صدر الإسلام ، يليه العصر الأموى
ونستطيع أن نقول إن العصر العباسي كان هو بداية التحول الشكلي في فن القصيدة ، حيث كثر استخدام مجزوءات البحور ، و مشطوراتها ، و منهوكاتها،
(مجزوء البحر الشعري ينتج عن حذف التفعيلة الأخيرة من كل شطر في البيت ، والمشطور هو ما أخذ فيه شطر البيت فقط ، ليصبح ذلك الشطر بمثابة البيت الشعري ، لذا تُكتب الأشطر رأسيا ، ولها نفس القافية ، و أما المنهوك فهو ما حُذف ثلثا كل شطر فيه ، فحينما يكون في الشطر الواحد ثلاث تفعيلات ، تتبقّى تفعيلة واحدة فى كل شطر ) ،
كما حاولوا - أيضا - قلب نظام الدوائر العروضية الخليلية
وخاض هذا الغمار شعراء كبار ، مثل بشار بن برد ، وأبي العلاء المعري ، وأبي العتاهية ، وسُـئل أحدهم - ذات مرة - "لم لا تلتزم العروض ؟ " فردّ قائلا : "أنا أكبر من العروض" .
كما ذهب التطور إلي أبعد من ذلك ، حيث بدأت رحلة اختلال نسق البحر الشعري ، وذلك باختلاف عدد التفعيلات في شطري البيت الشعري العمودى ،
وكذلك ظهر شعر المقطعات ( الثلاثيات ، والرباعيات ، والخماسيات ) ، ونظام المزدوج ( أى اتفاق قافيتى شطرى البيت الواحد ، وهو ما يسمّى بالتصريع) ، أما فى قصيدة السطر ، أو قصيدة التفعيلة ، (حيث حلّ "السطر الشعرى " محل "البيت الشعرى" )، وفي هذا الشكل الشعري غابت القافية أو كادت ، واحتفظ الشعر -فقط - بالتفعيلة ، ثم - مؤخّرا - بلغ التغيير مداه ، فظهر ما يسمي بقصيدة النثر، التي تخلت أيضا حتي عن التفعيلة .
نعود إلي الأشكال الشعرية التي اختلف بناؤها الشكلي عن بناء القصيدة العمودية ، وهي الفنون الشعرية السبعة التي اتفق عليها النقاد قديما ، حسبما ذكر صفيّ الدين الحلّي في كتابه المتميز " العاطل الحالى " عن الفنون الشعرية "الملحونة " .. كما أسماها المغاربة - والتي حصرها في الأنواع الأربعة وهي الزجل ، والقوما ، والكان وكان ، والمواليا - الذى ظهر فى العراق- ( المواليا تسمى عندالمصريين - بـ " الموّال ") .
وكان قد سبق ذلك ظهور فن الموشح في بلاد الأندلس ، ( قيل إن ظهور الموشحات يعتبر بمثابة أول ثورة حقيقية علي قالب القصيدة العمودية ، واعتبروه تحطيما للشكل العمودي ، الذي ظل راسخا لزمن طويل)
بجانب ذلك ، وفي فترات زمنية لاحقة ، ظهر فن "المواليا " في العراق ، وقيل إنّ مبتدعيه هم " الأنباط" من أهل مدينة " واسط" - واسط هي مدينة عراقية ، تقع بين البصرة والكوفة ، بناها الحجاج الثقفى - وقد اقتطعوه -بيتين بيتين - من بحر البسيط ، والبيتان يتكونان من أربعة أشطر كتبوها تحت بعضها ( وأسمّوْها أقفالا) بقافية واحدة ، و قالوا عن هذا اللون من القول إنه " برزخ " بين المفصّح والملحون - إن جاز التعبير - أى خليط بين الفصحى والعامية ، ومنه الموال العراقى الشهير الذى يقول :
( طرقْـتُ باب الخِـبا قالت مَن الطارِق
فـــقُلت مفْـتِـونْ لا ناهِـبْ ولا سارِق
تبسّـمَـتْ لاح لي من ثَـغْـرِها بارِق
رِجِعْـت حيرانْ في بْحَرْ أدْمُعِى غارِق )
وقيل أيضا إن مبتدعيه من موالي البرامكة ( جمع موْلَى) من الفُرس، بعدما أنزل الخليفة "هارون الرشيد" بهم ما أنزل من تنكيل وتقتيل ، وأمَر ألّا يُرثي "جعفرُ البرمكي " بشعر فصيح ، فــرثَـتْـه جارية
له بهذا اللون من النظم الملحون - حتى لا يُعصى " الرشيد " - والذى منه :
يا دار أين ملوك الأرض . . أين الفُـرْس
أين الذين حَـمَـوْها بالقَــنَـا و الـتُّــرس
قالت تراهم رِمَـمْ تحت الأراضي الدُّرْس
سُـكوتْ بعد الفصاحةْ ألسِـنِـتْـهم خُـرْس