مساحة إعلانية
كنت أحب عمي حسن .. وأفخر به ..على عكس ما يظن بعض الأحفاد .. لكني كنت أخشاه .. فهو كبير الأسرة .. ولا يقبل أن يجادله أحد .. وأنا كما يقولون .. طويل اللسان .. وكنت محبا لعمتى بخاتي وعمتى نفيسه وعمي أحمد .. أما عمتي ( سكينة) فقد حالت جملة رويت لي عن موقفها من الميراث دون تعلقي بها .. حين سئلت لمن تعطي ميراثها من أبيها ؛ هل تعطيه لحسن أم أحمد أم أولاد المرحوم حنفي .. قالت بحكمة أقدرها الآن : ..[ الكبير كبير .. والحي أبقى من الميت ..]أي أنها إختارت أن يكون نصيبها مع الكبير المكلف بالقيام بالواجب .. والحي من الأخوة أقدر على البر من الميت ..
كانت عمتي بخاتي أكثر القلوب عطفا على أبناء أخيها الأيتام .. صحيح كانت تقول تعليقا على محبتها وحنانها : يا ولد أخوي.. زي محنة الوزة .. بلا بزه .. أي أن محنتها كانت تعبيرا وجدانيا لا أكثر، لكن لن أنسى لها فرحتها بعودة أخي محمد الألفي من حرب أكتوبر سالما .. لم تجد ما تعبير به عن فرحتها غير صناعة رايات ملونة صغيرة علقتها في شقوق جوائط بيتنا من الخارج .. ..
أما عمي أحمد درويش فكان رجلا رقيق القلب، سريع التأثر.. بكاء ، على ما كان يبدو على ملامحه كفلاح مصري من غلظة وحزن عضوي ، أعتقد أنه حزن متوارث عن جدتنا إيزيس . لم يكن موسرا- ككل أبناء قريتي - لكنه كان معتزا بنفسه .. حريصا على عدم التفريط في كرامته مهما كانت الأسباب وككل الفلاحين المصريين ظل فأسه في يده حتى لقي ربه رحمه الله .ربما لمحبتي التي لم أعبر له عنها كثيرا .. أسميت ولدي البكر باسم أحمد .. ربما ..
لم أضبطه يوما متعطلا، فهو إما مشغولا بالعمل في أرضه أو أرض إخواته وأبناء عمومته . وتحتفظ ذاكرتي له بصورة يبدو فيها مرهقا عرقانا ، راضيا رغم كل ما كان يلاقيه في حياته من عثرات .وما يعانيه مثلنا من شظف العيش .
لعل أقدم صورة ذهنية أحتفظ بها لعمي أحمد كانت صورته في ملابسه الداخلية يخوض في ماء الفيضان الذي أحاط ببيوت الجزيرة يتحسس بيده القاع بحثا عن جثة (طفلته أو طفله لم أعد أذكر ) الذي ابتلعها الفيضان ولم يردها رغم صرخات الأم الملتاعة، والأب الدامع العينين . والمدهش أنني كنت أقف على جسر الترعة التي تحتجز ماء الفيضان عن القرية ولا أدري كيف انتبهت إلى دمع عمي رغم الماء الكثير . ولعل هذه الصورة كانت رادعا لي عن دخول مسابقات الغطس أمام سحارات حجز المياه في (حوض عبد اللطيف ).
الصورة الثانية كانت لعمي أحمد يجلس بجوار الفرن في بيت جدي عبد الغني يحاول أن يكفف دموعه، بينما تنطلق حوله زغاريد الإحتفال بطهور أبناء أخيه (المرحوم حنفي) . وحين لامه البعض على موقفه وعلى بكائه في لحظات الفرح ، قال لهم : لو ليكم أخو مات قبل ما يحضر طهور ولده .. ما لمتونيش .. وللمرة الثانية تجتذب دموعه نظري رغم ما أنا فيه من رعب من موس أبو عبد الله الحلاق الذي قطع قبلي لأخي رشدي وأخي ألفي .. وكنت الأخير الذي شاهد شريط الرعب المختلط بالزغاريد والصرخات .
خاصمني عمي أحمد لفترة طويله لأنه سمع أني لم أدافع عنه حينما ( لسن) عليه أحدهم أمامي ووصفه بالفقري .. فحينما لقيته بعدها حييته كالعاده : إزيك يا عم ... أدار رأسه جانبا مخفيا عينيه عني وهو يقول : أنا لا عمك ولا أعرفك ..ربنا ما يدفنا ف جباناتكم .. بعدها ظللت لشهور وربما لسنوات .. لا أحييه إذا لقيته مصادفة في طريق ، مخافة تلك النظرة اللائمة الدامعة التي رأيتها في عينيه لحظة لومه لي على تقاعسي عن الدفاع عن سمعة عمي . ربما لم ينتبه بعضكم إلى الفرق بين الدلالتين .. الفقير والفقري .. الفقير من ليس له من المال الكثير .. أما الفقري فهو (وش النحس) الذي مهما أعطاه الله من المال يظل محتاجا للآخرين .. لا يعترض عمي على الفقر .. فكلنا فقراء والله هو الغني .. لكن اعتراضه أن يوصف بالنحس .
كان رحمه الله متسامحا .. ربما يتغاضى عن إساءة من أخيه أو أبناء عمه ويكتفي بدعائه الشهير : ربنا ما يدفنا ف جبانتكم .. وقد سمعت منه تلك العبارة كثيرا خاصة حينما كان يختلف مع عمي حسن على الباقي من ثمن قيراط أرض باعه له .. أو غير ذلك ..
كان عمي أحمد مدمنا (للشاي والدخان) .. ورغم أن نصيبه من الأرض كان مساويا لنصيب أبي إلا أنه استسهل بيع القيراط إثر الآخر لتوفير نفقاته التي لم تكن إيرادته من العمل بالفأس في حقله وحقول الآخرين كافية لسدادها .. وكان عمي حسن يشتري منه ما يبيع ليس طمعاـ ـــ فيما أعتقد ـــ ولكنه كان يرى أنه من العار أن يركب أحدهم أرض أبيه .
لم يكن عمي أحمد يقبل أن يعطيه أحدهم (سيجارة) أو( نفس جوزة ) بلا مناسبة .. إعتزازا بكرامته .. وأذكر أنني بعد أن صالحته .. وكنت قد صرت موظفا .. دخلت إحدى الغرز مع بعض أصدفائي .. وكان عمي أحمد متربعا على مصطبة الغرزة منكفأ على ( الجوزة ) يدخن المعسل ، ومن باب المجاملة طلبت من صاحب الغرزة أن يعطي عمي أحمد ( باكو دخان ) ، التمعت عيناه بالغضب، فربما أحس في نبرة صوتي شكلا من أشكال المن عليه ، ورفع عينيه صامتا متحفزا للرد .. لولا أن أحد أعمامي لطف الموقف قائلا : ولد أخوك وبييحيك يا شريف .. عاد الصفاء إلى وجهه قائلا : تشكر يا أستاذ ..
بعد أن نفدت قراريط عمي أو كادت، بدأ البحث عن العمل لتوفير نفقاته ونفقات بيته وأولاده ، فهو لا يقبل المساعدة من أحد .. بدأ عمي أحمد في الخروج من القرية .. وربما من المركز وربما من المحافظة للبحث عن العمل .. وسمعت أنه خرج في مواسم جني القطن بشدة من العمال إلى النخيلة والدوير في الغرب كما كان يفعل كثير من أبناء القرية ..
كانت السفرية الأخيرة إلى مطروح .. حيث كان الأجر المجزي .. غاب عمي أحمد أشهر لا أذكر عددها .. بلغنا خبر وفاته بعد أشهر .. ودفن كما كان يدعو الله .. بعيدا عن جبانات الشرفا ... فقد كان يقول : ربنا ما يدفنا ف جبانتكم ..ويبدو أن الله قد استجاب له ..