مساحة إعلانية
هي شجرة سنط قديمة ، كنا نسميها سنطة الشيخ جابر . ربما لأنها تقف في ساحة مسجد ومقام جدي ولي الله الشيخ جابربن عبد العزيز . وقد تكون قد اكتسبت التسمية من اسم زارعها الشيخ جابر، فهي قديمة لا يذكر من عرفتهم من أعمامي وأجدادي متى وجدت . لكن الثابت أنها كانت ملاذ الخارجين من صلاة ظهر الجمعة صيفا . فما تفرشه من ظلال على الساحة الواسعة تكفي لاستيعاب العديد من الرجال والأطفال .وخاصة أبناء عائلة الأشراف أحفاد الشيخ جابر . وارتباط الشجرة باسم الشيخ أكسبها قداسة لدى كثير من أهل القرية إن لم يكن كلهم . فلم يتجرأ أحدهم على قطع غصن منها لاستخدامه في صناعة أداة من أدوات الزراعة ، كعوارض (البدالة) أو هراوات الفؤوس، ولا حتى (الزقل) جمع زقلة وهي عصاة تستخدم في المعارك المعتادة بين العائلات . ولم تكن الشجرة وهذا من الغرائب تفرز الصمغ المعتاد على جذعها وغصونها بل كان يسيل منها سائل لونه أقرب إلى لون الدم .
وكان من المعتاد أن يجتمع تحت سنطة الشيخ في غير أيام الجُمَع أعمامي ومن بقى على قيد الحياة من الجدود ، وكان أطفال الأشراف يلعبون تحتها ألعابهم الهادئة التي يقبل بها الكبار . ولم أكن عادة بينهم ، فكنت أسكن رهبة أخوالي (العيس)بعد وفاة أبي . لكن كنت من وقت لآخر أذهب إلى( شق الشرفا) وألعب تحت السنطة، من باب اثبات الملكية والانتساب إلى العائلة، فكان معظم الأقران من ابناء الأعمام ينظرون إلي وإلى إخوتي كأغراب ويتسائلون إيه اللي جايب دول هنا ؟ .
وما زال يعلق بذهني مشهدان لا أنساهما ما حييت ، المشهد الأول شاركني فيه أبي وكنت صغيرا اجلس في حجر أبي الذي جلس مستندا بظهره إلى جذع السنطة الضخم ، بينما محمد مهران ينادي على البطيخ ( زرع الجزاير يا بطيخ ) . ولا أحد يقترب من االمارة من بطيخه صغير الحجم . قجأة عن لي أن أذوق( زرع الجزاير) ، فقلت لأبي : عايز بطيخ يا أباه .. ضحك أبي قائلا : العيال تقول عايز بطيخه .. أنت عايز بطيخ كتير ..؟ قلت : إي بمعنى أجل .. إلتفت أبي إلى محمد مهران : تاخد وحده بخمسه ( خمسة قروش ) وتبيعهم شروة ..؟ . ويبدو أن بائع البطيخ كان قد مل الجلوس بلا زبائن فنظر إلى ما يقرب من عشر بطيخات أمامه وإلتفت إلى أبي قائلا : نقدي والا شكك ..؟ قال له أبي : نقدي يا محمد .. بسط الرجل يده، فناوله أبي قطعة نقديه فضية ..أظنها كانت كل ما بجيبه .. فقد أخرجها بسرعة ومنفردة ، فتلقفها قائلا : حلال عليك يا شريف .. ونهض ينفض الغبار عن ثيابه ..
نظر إلي أبي .. قائلا : تقدر تشيل .. نهضت بخفة مؤكدا قدرتي .. ورحت أدحرج البطيخ حتى أدخلته بيتنا القريب واحدة بعد أخرى . كانت أمي تزور أمها نهارا .. فتلقيتها فرحا .. لأبشرها بأن أبي زرع لنا (الخزانة) بطيخا .. بالتأكيد كانت غضبة أمي من إسراف أبي أكبر من فرحتي بالبطيخ الذي اشتراه لي أبي .
المشهد الثاني والذي جرى تحت سنطة الشيخ جابر كان بعد ذلك بسنوات ، كنت قد تيتمت ، وكنت أستعد لدخول المدرسة الإلزامية . كنا أعني كل أطفال القرية نمشي ليلا ونهارا حفاة . ولا ننتعل الأحذية إلا في المناسبات . وحدث أن تخلى خالي (علي) عن حذائه القديم بعد أن اشترى له جدي زوجا جديدا، ليذهب به إإلى المدرسة الإعدادية . فوضعته في قدمي ، وذهبت لأغيظ أولاد أعمامي تحت السنطة . جلست على حجر من الحجارة العديدة التي تستخدم للجلوس تحت السنطة . ووضعت ساقا على ساق مستعرضا الحذاء الجديد بالنسبة لي . ولفت هذا أنظار أعمامي . فقال أحدهم وأظنه عمي فؤاد جعفر : إيه يا استاذ هتروح المدرسة ..؟ هززت رأسي بالإيجاب .. وكان عمي حسن درويش بين الجلوس فقال عمي فؤاد : وهتطلع إيه ؟ قلت له : قاضي .. قال : ولو جه عمك حسن قدامك تحكم عليه بإيه .. ( كان عمي حسن مشهورا بتردده على المحكمة كثيرا ) .. قلت مقلدا ما أسمعه عن القضاة : حكمت المحكمة على عمي حسن بست اشهر .. انفجر أعمامي في ضحك صاخب جعل عمي حسن ينتفض غاضبا .. ويصفعني على وجهي صفعة ظل أثرها على وجهي حتى بلغت حجر أمي باكيا .. وعندما حكيت لها ما حدث .. قالت : تستاهل عشان طولة لسانك كانت أمي تقولها وهي تتميز غيظا .. وسمعتها تسب عمي حسن وتدعو الله أن يلقى ما فعله بي في أولاده .. قلت لها : ما تزعليش .. هأخلصه منه القلم ده .. ولو على الغصل أي أنني سوف انتقم منه ولو بعد موته ..
المدهش أنني اقتربت كثيرا من عمي حسن بعد أن كنت أخافه ، خاصة بعد أن كبرت وصرت موظفا . والغريب أنني تذكرت المشهد الذي جرى تحت سنطة الشيخ جابر ـ وأنا أقف على غسل عمي المرحوم حسن درويش .. وأحسست أنني سامحته ..فلم يكن لدي الرغبة في الانتقام .. بل التمست له العذر فيما فعل ...
ظلت سنطة الشيخ جابر في موضعها تستقطب الخارجين من ظهر الجمعة ليستظلوا بظلها الذي صار يتراجع بعد سقوط الكثير من غصونها ، حتى اقتلعها أحد أحفاد عمي حسن ليزرع في موضعها غابة من الأعمدة الخراسانية لبيت مكتمل .. رغم أنه قليلا ما يعود إليه من سفرياته الكثيرة إلى حلوان وغيرها من بلاد المهجر .