مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب "من تلك الأيام : البتْ حِلْوَة

2024-04-24 02:36:18 - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب "من تلك الأيام : البتْ حِلْوَة
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي
منبر

كنا صغارا ... صيفا لا نحتاج من الملابس إلا اثوب ( الحَسْو ) من قماش (النهضة)، فضفاض يسمح للهواء أن يتخللنا بحرية، ولم تكن أعضاؤنا الداخلية قد اكتسبت قداستها بعد .. فلم نكن نحتاج إلى السراويل أولادا وبنات.. 
    في (موسم الغراق) يسهل علينا نحن الأولاد؛ خلع ذلك الثوب، وإلقائه على ما يرتفع من الأرض أو الزرع، حتى لا يجرفه الماء .. وكذلك البنات يفعلن .. لنتسابق في استعراض مهارة صيد (القرقار) ذي الشوكة .. والسمك البني  الذي يشبه البنات في نعومتهن ورشاقتهن .. وقد نعقد مسابقة للعوم المشترك  دون أن نلقي بالا لاختلاف أعضائنا التي لا تشغلنا ... 
          أما في الشتاء فتنكمش أعضاؤنا نحن الصبية من الصقيع، فتبدل أمهاتنا ثيابنا من (النهضة) بثياب (الكستور) أو( المقطع)، دون حاجة لسراويل. وما حاجتنا للسراويل؟، فلم يكن يفرقنا عن البنات في ثيابنا إلا الألوان. لا فرق بين الأولاد والبنات في النهار غير قدرتنا كأولاد على إطلاق ماءنا على الحائط، أو أن  نرسم به على التراب دوائر وأشكال لامعنى لها سرعان ما تجف.  
      فإذا جاء المساء بغبشه الجميل، بعد أن ترهقنا ألعاب العصاري، نتجمع حول من تشعل لنا النار .. وتشعل في دمائنا خيالات الحكايات، عن (ست الحسن) و(الشاطر حسن). كنا نتضاغط في المجلس حول النار لنحس بالدفء أكثر، متحلقين حول النار وخالتي التي لا ندري من أي عين تخرج دلاء الحكايات الممتعة تلك ..!! 
     كانت البنت (حلوة) ـ وهذا ليس اسمها بالطبع ـ لكنه الاسم الذي من المؤكد أن يناديها به كل من يراها .. واحدة من بنات (البوابة الكبيرة)،  وكانت بنات البوابة الكبيرة  في الأغلب كعصي (الأبانوس) .سمرة رائقة .. وجمالا شفيفا .. وكان لون (حلوة) يميل مثلي إلى البياض .. لكن لونها في عيني مختلف  فكما نمزج الفراولة بالحليب كان لونها .. مزيج رائع  أعطاها الله إياه ، فصار مبررا لحسد كل بنات ونساء
البوابة الكبيرة . .. 
      كنت أحرص على الجلوس إلى جوارها، وشيئا فشيئا وعلى وقع الحكايات، تخفت النار وتتحول إلى جمر ينام على رماده، فتتلاشى ألواننا، وتتلاحق أنفاسنا الشبقة، وخالتي تصف (ست الحسن ),, بالشعر (سلب الجمال)، والعيون (الغزلان)، والبطن (العجين الخمران)، والأوراك التي كأعمدة الرخام. 
      وبينما كنت أحلق في سماوات الجنات مبهورا بما أسمع، وقد انتشرت أعضائي دفئا.. يلمسني من تحت ثيابي شيء ما، جعلني أقفز كأنما لسعني الجمر. تضحك خالتي والبنات والأولاد  من ارتجافي  المفاجئ، وتعلق خالتي مازحة وتقول : آنت نمت يا ولد أختي..؟ روح نام ف باط امك ... 
         لكن الولد المذعور يلمح ابتسامة خبيثة على وجه(حلوة)، فتعيد إليه الثبات. كان إذن كفها الدفيء هو ما مس ما تحت ملابس ..!!  شعرت بقشعريرة غريبة لذيذة، وعدت الي مجلسي أكثر التصاقا ب(حلوة)، بينما ما زال الضحك يغلف الحكاية.. هدأت الضحكات وراحت خالتي تواصل وصف الشاطر حسن، بينما الابتسامة تكاد تبين على وجهها.. انتبهت إلى كفها تحاول اكتشاف ما تحت ملابسي باطمئنان  مما شجعني على تلمس ما تحت ملابسها.. لحظتها أدركت كيف ترتج الأرض و السماوات حين تمس أيدي الرغبة أعضاءنا المقدسة. 
      وما أسرع ما تتبدل بنا الأيام.. وقد لا تبدلنا .. لكنها تفرض علينا شروطها . بدأت رحلة الدراسة بالنسبة لي خارج البيت والبلد. وطوحت بي الأيام بين ( البداري ) و(طما) لإتمام الدراسة الإعدادية .. وحين كنت أعود إلى البوابة الكبيرة .. ويتسابق الرفاق لتحيتي .. تتسع عيونها الواسعة لتحتويني في ملابسي الافرنجية النظيفة .. دهشة ظامئة .. وتمد كفها الذي صار كبطن (ست الحسن).. فتعيد إلي نفس النشوة التي أحسستها تلك الليلة من سنين. وبعدها رحلت إلى (مصر) أي (القاهرة) للدراسة الثانوية وعدت شابا مهندما، يتشدق باللهجة البحراوية، لم أكد أعرفها حين أقبلت في لهفة لتسلم علي، ثم تنفلت هاربة قبل أن يلحظ أحد طول مكث واسترخاء كفها  بين كفي. 
 كان علي وقد بلغت مبلغ الرجال .. أن أعود بأمي وأخويَّ إلى بيتنا بين أهلي وأعمامي في ( درب الشرفا )، وقبل أن أذهب إلى عملي في البداري عرجت على بيت جدي .. شوقا إلى مراتع الصبا ورفقاء اللعب. صعدت سطح بيت جدي.. ورأيتها لآخر مرة .. هيكلا عظميا .. يشير لي بالتحية في وهن وكأنها إشارة الوداع .. أحسست بدهشة مؤلمة، وحزن شديد .أهذه الحلوة التي مزجها الله من الحليب والفراولة؟  
     نزلت من سطوح بيت جدي واجما، وحين لاحظت أمي ما أصابني من غم  سألتني: مالك .. شفت عفريت .؟  وحين أخبرتها بما رأيت .. وضعت يدها على فمها تأمرني الصمت .. التفت أمي في شقتها بسرعة حتى لا تتيح لي فرصة الخوض في الأسئلة التي تعلم أنها تجمعت في فمي .. دفعتني للخروج  وخرجت خلفي في صمت .. أدركت أن شيئا عظيما تكتمه ولا تريد أن تتكلم عنه أو به.. حين انفردت بأمي في بيتنا .. قالت دون أن أسألها .. ودون أن ترفع عينيها إلى وجهي بعد أن أطلقت سكين التأوه : 
- مسكينة بت أخوي .. لو أمها عايشه ..كانت قطعت إلسنتهم الظلمه..
      أخبرتني أن شائعات تسربت إلى أبيها ..  والله أعلم .. عن علاقتها بأحدهم .. فحبسها في البيت دون طعام .. وأقسم على عماتها ومن يدخل البيت أن من يطعمها سيضربه بالنار .. كان الجميع يعلمون أنه جاد في قسمه؛ لذا  تركوها بلا طعام. فقط عمتها التي لم تتزوج .. كانت تخاطر بدس بعض اللقيمات في طاقة بالمنزل ، وتزعم أنها نسيتها .. حتى وصلت إلى ما رأيت. 
لم يكن بيد أحد ولا حتى أنا أن يفعل شيئا .. إنه طغيان الشرف القبلي.. 
حينما عدت في إجازة نهاية الأسبوع .. كنت حزينا فعلا وأنا أخطو إلى (المنضرة الكبيرة) .. وكان أبوها رافع الرأس الملتفة بالشاش الأبيض .. يتلقى العزاء .
 
 كم من الحلوات تلقينا فيهن العزاء .. لمجرد إشاعة..!!

مساحة إعلانية