مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الشاعر الدكتور مصطفى رجب يكتب:الشاعر الجاهلي المغمور : أبو دواد الإيادي

2024-04-10 00:16:10 -  تحديث:  2024-04-09 23:59:07 - 
الشاعر الدكتور  مصطفى رجب يكتب:الشاعر الجاهلي المغمور : أبو دواد الإيادي
الشاعر الدكتور مصطفي رجب
منبر

شاع فى كتب الأمثال العربية قولهم "جار كجار أبى دواد" فمن أبو دواد ؟ وما الذى فعله ذلك الجار الذى خلد فعله ذكراه ؟ ولم ضاع شعر أبى دواد؟0
لقد كان أبو دواد الإيادى شاعرا مجيدا للوصف ، وكان ابنه شاعرا واسمه دواد، وابنته دوادة شاعرة أيضا0 ولكن ما بقى من تراث هذه الأسرة الشاعرة قليل فى بطون أمهات الكتب0 برغم جودته ورقته 0 وفى السطور التالية نقضى ساعة فى ضيافة هذه الأسرة الشاعرة التى ذاع صيتها وضاع صوتها بين رياح التاريخ الأدبى الهوجاء:
اسمه وكنيته :
 لم يتفق المؤرخون على اسم أبي دواد الإيادى0 وهناك عدة روايات:
* قال الأصفهانى(1) : ان اسمه جارية بن الحجاج0 وكان أبوه الحجاج يلقب بحمران بن بحر بن عصام بن منبه بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار بن معد0 ونسب القول بهذا الى يعقوب بن السكيت0
* وقال محمد بن حبيب البغدادى (ت245هـ) فى كتابه "كنى الشعراء" ان اسمه حارث بن حمران ابن بحر بن عصام، وأشار عبد السلام هارون فى تحقيقه لهذا الكتاب إلى ما أورده صاحب المؤتلف من أن اسمه جويرية بن الحجاج أو حنظله بن الشرقى كما فى الشعر والشعراء(2)0
* وقال الآمدى فى "المؤتلف والمختلف" : اسمه جويرية بن الحجاج من حى من إياد(3)0
* وقال ابن قتيبة فى "الشعر والشعراء : اختلفوا فى اسمه فقال بعضهم هو جارية بن الحجاج 0 وقال الأصمعى : هو حنظلة بن الشرقى0 وقد علق المحقق أحمد محمد شاكر على هذه العبارة واصفا إياها بالشذوذ لأن حنظلة بن الشرقى هو أبو الطمحان القينى ووردت له ترجمة فى الشعر والشعراء نفسه، كما أن الأصمعى الذى نسب إليه تسمية أبى دؤاد بحنظلة أورد لأبى دواد قصيدة فى الأصمعيات وقال : اسمه جارية بن الحجاج(4)0
* وقال كارل بروكلمان ان اسمه : جورية بن الحجاج (5)0
* وقالت د0 بنت الشاطئ فى شرحها لرسالة "الصاهل والشاحج" لأبى العلاء المعرى عن جمهرة الأنساب أنه جارية بن الحجاج كما أشارت الى ما أورده ابن قتيبة من خلاف فى اسمه(6)0
* وذكر ابن خلكان أن اسمه حارثة بن حجاج وقيل حنظلة بن شرقى(7)0
وحاصل ما تقدم أن اضطراب الرواة فى ذكر اسمه يجعلنا أمام أحد الاحتمالات التالية:
1- أن يكون اسمه حارثة أو جارية0 وواضح أن الاختلاف بينهما مرجعه الى ظاهرة التصحيف التى كانت تسيطر على كتب التراث التى قلما ورد فيها نقط الحروف فمبنى الكلمتين - بدون النقط - واحد هكذا (حارـه)0
2- وأن تسمية "جويرية" وهى تصغير جارية التى أوردها الآمدى ونقلها عنه بروكلمان تقوى احتمال أن يكون الاسم جارية لاحارثة0 وقد تكون تصغير الاسم صاحبة حقبة من حياته فى أول عمره مثلا0
3- ولا خلاف بين الرواة على أن اسم أبيه "الحجاج" وأن لقب الحجاج هذا كان (حمران) مما جعل محمد ابن حبيب ينسبه الى اللقب فيقول ان اسمه : حارث بن حمران0
4- ولا خلاف بين الرواة على أن اسمه بعد أبيه مستقيم فجده هو بحر بن عصام0
5- وأما حنظلة بن شرقى فهو خطأ محض ، أو قول منسوب الى الأصمعى دون دليل وقد نقله ابن خلكان فيما يبدو عن ابن قتيبة وإن لم ينص على ذلك صراحة
وأما كنيته (ابو دواد) فقد أشار اليها ابن منظور(8) فى لسان العرب فى مادة (دود) فقال : “قال بن الأعرابى: الدوادى مأخوذ من الدواد وهو الخضف الذى يخرج من الإنسان0 وبه كنى أو دواد الإيادى والخضف - كما قال فى اللسان أيضا - هو الضراط وأنشد:
 إنا وجدنا خلفاً بئس الـخلف
 عبدا إذا ما ناء بالجمل خضف
 أغلق عنـا بـابه ثم حـلف
 لايُدخل البوابُ الا من عَرَف
ولكننا نستبعد أن يكون هذا المعنى اللغوى البعيد عن الذوق العربى هو مصدر الكنية، ونميل الى أن يكون أو دواد قد كنى بهذه الكنية لأن له ولداً اسمه دواد أشارت المصادر التاريخية الى وجوده والى أن لهذا الولد مع أبيه مواقف مشهودة سيأتى ذكرها ولعله كان أكبر - أو من أكبر - أولاده فكنى به0
موطنه :
يبدو أن دواد بن أبى دواد كان من أكابر بنى إياد الذين سكنوا شمالى الجزيرة العربية فقد وصفه المؤرخون بأنه كان أحد نُعَّات الخيل الثلاثة المشهورين والآخران هما طغيل الغنوى والنابغة الجعدى0 قالوا : "وإنما أحسن أبو دواد وصف الخيل لأنه كان على خيل النعمان بن المنذر"
وهناك من النصوص ما يدل على أن إيادا اختارت السكنى بأرض ما بين نهرى دجلة والفرات0 فقد روى الأخفش الأصغر (ت 315هـ) فى كتاب "الاختيارين"(9) قصيدة للأخنس بن شهاب التغلبى مطلعها:
لابنة حيطان بن عوف منازل كما رقَّش العنوان فى الرق كاتب
يذكر فيها بعض تنقلات قبائل العرب فى أراضى الجزيرة فيقول:
وبكر لها بر العراق ، وان تخف يحل دونها، من اليمامة حاجب
وصارت تميم بين قـف ورملة لها فى حبال منتأى ومـذاهـب
وكلب لها خبث فرملـة عالج الى الحرة الرجلاء حيث تحارب
وغسان حى، عزهم فى سواهم يجالد عنهم حسر وكتــائب
الى أن يقول:
وغارت إياد فى السواد ودونها برازيق عجم تبتغى وتضارب
فالمراد بالسواد هنا أرض العراق، والبرازيق واحدها برزيق وهو الموكب بالفارسية0
كما روى الأخفش أيضا فى كتابه هذا قصيدة للأسود بن يعفر النهشلى(10) مطلعها:
نام الخلى وما أحس رقادى والهم محتضر لدى وسادى
جاء فيها:
ماذا أؤمل بعــد آل محرق تركوا منازلهم وبعـــد إياد؟
أهل الخورنق والسدير وبارق والقصر ذى الشرفات من سنداد
أرض تخيرها لبرد مقيلــها كعــب بن ماجة وابن أم دواد
وسنداد أسفل الحيرة بينها وبين البصرة، كما جاء فى المصادر ، وقد كانت الحيرة هى عاصمة ملك المناذرة وهم من أصول عربية يمنية ترجع الى قبيلة لخم وقد جاءوا الى أرض العراق فى حوالى القرن الثالث الميلادى واتخذوا الحيرة مستقرا لهم وهى تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات على بعد ثلاثة أميال من المكان الذى بنيت فيه الكوفة فيما بعد(11)0
وكانت قبيلة إياد - التى دان أكثر أفرادها بالنصرانية هم وتغلب وبكر - وقد غادرت أرض البحرين بعد أن أجْلتها عنها قبيلة عبد القيس، إلى أرض العراق بين النهرين واستوطن الإياديون تكريت وسنداد وغيرهما من تلك البلاد الخصبة واتخذوا الزراعة مهنة لهم0 ولم تكن الزراعة من المهن التى تتفق مع الطبيعة العربية التى تميل الى التجارة والرعى0 فقد كان العرب يرون فى الزراعة ذلا وهوانا لأنها كانت حرفة الحضر وأهل الحضر المستقرين، أما أهل البادية فكانوا أهل مغامرة وفتوة0 وقد عير الأعشى قبيلة إياد بامتهان الزراعة0 فقال(12):
لسنا كمن جعلت إياد دارها تكريت تنظر حبها أن يحصدا
قوما يعالج قُمَّلا أبنــاؤهم وسلاسلا أجدا وبابا موصدا
وهذه الأبيات السابقة تدل على مساكن إياد بعامة ومساكن أبى دواد (ابن أم دواد) وكعب بن مامة بصفة خاصة0
وذهب ابن خلكان فى ترجمته لأبى عبد الله محمد بن سنان الحرانى التبانى الحاسب (ت310هـ) وهو عالم فلكى قديم توفى بموضع يسمى الحضر بفتح الحاء وسكون الضاد - وهى مدينة قديمة بالقرب من تكريت بين دجلة والفرات فى البرية يلقب حاكمها بالساطرون - بفتح السين وكسر الطاء وضم الراء - وهو لفظ سريانى معناه الملك، إلى أن ابادوا الايادى ذكر فى شعره حصار أردشير بن بابل أول ملوك الفرس لهذه المدينة وقتل الساطرون فقال أبو دواد(13):
وأرى الموت قد تدلى من الـ حضر على رب أهله الساطرون
مرعته الأيام من بعـد ملك ونعـيم وجـوهر مكــنون
مكانة أبي داود بين قومه:
روى الأصفهاني فى الأغاني (16/377) عن الأصمعى أن أبا دالود كان على خيل المنذر بن ماء السماء فأكثر وصفه للخيل0 وقد كان المنذر بن ماء السماء (514-554م) من أشهر ملوك المناذرة ومحط رحال الشعراء وكان يتمتع بشخصية قوية فقد رفض الديانة المزدكية التى عرضها عليه "قباذ" ملك الفرس الذين كان المناذرة يتبعونهم سياسيا مما أدى الى عزله حتى أعاد كسرى أنو شروان الذى خلف قباذا وكان يبغض المزدكية فعاد المنذر حاكما للحيرة وعادت معه عاداته التى عرف بها مثل يومى النعيم والؤس وغيرهما0
ولاشك فى أن تولية ابى دواد أمر الخيل بالنسبة لملك كالمنذر كانت دليلا على مكانة اجتماعية متميزة حظي بها هذا الشاعر الإيادى مما جعله يتفنن فى نيل الحظوة بتجويد شعره واتقان عمله، فأجاد فى وصفه الخيل حتى اشتهر0 وقد كان لأبى دواد ناقة تسمى الزباء وكان بنو إياد - فيما يروى صاحب الأغانى - يتبركون بها0 فلما أصابتهم سنة قاحلة تفرقوا ثلاث فرق : فرقة سلكت فى البحر فهلكت، وفرقة قصدت اليمن الى حيث أصولها الأولى فسلمت0 وفرقة قصدت أرض جيرانهم من قبيلة بكر بن وائل فنزلوا بالحارث بن همام وكان السبب فى ذلك أنهم أرسلوا الزبا ناقة أبى دواد التى كانوا يتبركون بها واتبعوا سيرها فحيثما اتجهت اتبعوها0 ومازالوا كذلك حتى بركت فى فناء الحارث بن همام وكان أكرم الناس جوارا، فقال أبو دواد يمدحه ويذكر ناقته الزباء:
فإلى ابن همام بن مرة أصعدت ظعن الخليط بهم فقل زيالهـا
أنعمت نعمة مـاجد ذى منة نصبت عليه من العلا أظلالها
وجعلتنا دون الولى فأصبحت زباء منقطعا إليك عــقاله
ويبدو أن أبا دواد لم يتبوأ تلك المكانة فى قومه الا بعد أن ظهرت عليه مخايل الفروسية وامارات الشجاعة فقد روى له أبو العلاء المعرى فى رسالة الصاهل والشاحج أبياتا تموج بالفخر والفروسية وحب ركوب الخيل يقول فيها(14):
علقت هامتى بعض ما يمـ ـنع منى الأعنة الأقدار
وانجرادى بهن نحو عدوى وارتحالى البلاد والتسيار
تلكم لذتى الى يوم موتى إن موتا وإن عمرت قصار
قصة جار أبى دواد :
ولا نستطيع ونحن نتحدث عن مكانة أبى دواد بين قومه أن نتغاضى عن البيت الشهير الذى يتردد كثيرا فى كتب التراث منسوبا الى الشاعر قيس بن زهير العبسى وهو قوله:
أطوف ما أطوف ثم آوى إلى جار كجار أبى دواد
ويروى أحيانا :
سأفعل ما بدا لى ثم آوى إلى جار كجار أبى دواد
وقد ورد ذكر ذلك الجار نفسه فى قول طرفة بن العبد يمدح عمرو بن هند :
إنى كفانى من هم هممت به جار كجار الحذاقى الذى انتصفا
والحذاقى هو أبو داود منسوبا الى حذاق وهم قبيلة من إياد0 فمن ذلك الجار؟ الحقيقة أن الرواة اضطربوا فى تحديد شخصية ذلك الجار فمنهم من ذهب الى أنه كعب بن مامة الإيادى وهو ابن عم أبى دواد0 ومنهم من ذهب الى أنه الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان0 ومنهم من ذهب الى أنه المنذر بن ماء السماء0 وقد روى الأصفهانى ثلاث قصص يبدو فيها عدم القدرة على تحديد ذلك الجار الشهم من بين هؤلاء الثلاثة0 أما ابن قتيبة فقد جعل ذلك الجار ملكا من ملوك اليمن لجأ ليه أبو دواد، ثم جعله مرة ثانية الحارث بن همام بن مرة0 ثم نقل عن ابى عبيدة أنه كعب بن مامة0 ولم يحدد لنا كذلك إلى أى الروايات يميل0
أما أن هذا الجار الممدوح هو الحارث بن همام فقد ساق ابن قتيبة فى تأييد ذلك قصة مؤداها أن قباذ - ملك الفرس- أرسل جيشا بقيادة الحارث بن همام لتأديب قبيلة إياد فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دواد فأجارهم0 وقد سبق أن أشرنا الى أن قباذ هذا أراد أن يفرض الديانة المزكية التى يدين بها على المناذرة فلم يفلح إزاء تشدد المنذر بن ماء السماء مما أدى إلى عزل المنزل ثم تولى كسرى أنو شروان فأعاد المنذر ملكا على الحيرة0 ولا يبعد أن يكون قباذ قد جيش جيوشا أرسلها الى الحيرة ولكن من المستبعد أن يكون الحارث بن همام إذا كان أميرا لهذه الجيش من الوهن والضعف بحيث يغيث أى مستغيث0 ويعفو عن بنى إياد - وهو مرسل إليهم كما روى بن قتيبة - لمجرد أن أبا دواد استجاره0 وحتى إذا أجاره من القتل والتشريد فهل ستدوم بينهما العشرة حتى يصبح ممدوحا له وموصوفا  بأنه خير جار؟0 وعلى فرض صحة تلك الرواية فماذا فعل أبو دواد بعد أن الت دولة قباذ وعاد المنذر بن ماء السماء ملكا على الحيرة وكان أبو دواد كما قدمنا قيما على خيله؟ الذى نميل اليه أن تلك الرواية هشة لا تثبت لنقد ولا تقوى أمام تمحيص0
أما الأصفهانى فقد روى أن ابا دواد مدح الحارث بن همام فأعطاه عطايا كثيرة ثم مات ابن لابى دواد وهو فى جوار الحارث فوداه0 فمدحه أبو دواد فحلف له الحارث أنه لايموت له ولد الا وداه0 ولا يذهب له مال الا أخلفه فطربت العرب المثل بجار أبى دواد0 وهذه أيضا قصة يبدو عليها الوهن لأن الحارث يبدو فيها شخصا أهوج سريع الانفعال، ما إن سمع قصيدة المدح حتى أقسم ليدين كل ميت من البنين وليخلفن كل فائت من المال وكان حريا بالرواة أن ينقلوا إلينا شيئا من قصيدة تفعل هذا الفعل السحرى فى نفس من قيلت فيه، وهو مالا نجد له فى كتب التراث أثرا0 فليس فيما بين أيدينا من مصادر أبى أبيات يمدح منها ابو دواد الحارث بن همام سوى تلك الأبيات الثلاثة التى ذكرناها سابقا فى حديث ناقته الزباء0
وأما الرواية الثانية التى ذهبت الى أن جار أبى دواد هو كعب بن مامة الإيادى -ابن عمه- فقد أسندها ابن قتيبة الى ابى عبيدة وأسندها الأصفهانى أيضا الى أبى عبيدة فقال : جاور أبو دواد الإيادى كعب بن مامة الإيادى فكان اذا هلك له بعير أو شاه أخلفها0 وهذه الرواية ليست ببعيدة فقد روى الأصمعى فى الأصمعيات قصيدة أبى دواد الشهيرة الت مطلعها:
منع النوم ماوى التهمام وجدير بالهم من لاينام
والتى منها بيته الشهير :
لا أعد الاقتار عدما ولكن فقد من قد رزئته الاعدام
ومنها يعتب على ابن عمه كعب بن مانه فيقول:
وأتانى تقحيم كعب لى المنـ طق ان النـكثية الاقحـام
فى نظام ما كنت فيه فلاير زنك شئ ، لكل حسناء ذام
ولقد رابنى ابن عمى كعب أنه قد يروم مـالا يــرام
فإذا صح أن جار ابى دواد المقصود هو ابن عمه كعب بن مامة الايادى ، فلا يبعد أن يكون هذا العقاب الذى ورد فى هذه القصيدة الأصمعية مما يكون بين الجيران والأصبه ممن يعرف بعضهم أقدار بعض، ولا يبعد أن تكون هذه القصة - أعنى قصة مجاورة أبى دواد لكعب بن مامة وتعهد كعب بأن يخلف ما يتلف من ابن أبى دواد- مما ألف الرواة أن يصطنعوه اذا ما اشتهر علم من الأعلام بصفة من الصفات0 وكان كعب بن مامة ممن سار ذكرهم فى بلاد العرب واشتهروا بالجود والكرم فقد أثر رفيقة النمرى بالماء ومات عطشا فضرب بالمثل فى الكرم والتضحية (مجمع الأمثال 1/162) ومن ثم فلا يبعد أن يسند الرواة إليه كثيرا مما يقابلهم من قصص المرؤءة والشهامة0
وأما القصة الثالثة التى جعلت المنذر بن ماء السماء هو جار ابى دواد المعنى فى البيتين المنسوبين الى قيس بن زهير وطرفه فقد ساقها الأصفهانى فقال:
" كان أبو دواد الإيادى الشاعر جارا لالمنذرين ماء السماء0 وإن ابا دواد نازع رجلا بالحيرة من بهراء، يقال له رقبة بن عامر بن كعب بن عمرو، فقال له رقبة : صالحنى وحالفنى0 فقال أبو دواد : فمن أين تعيش إياد إذا ، فوالله لولا ما تصيب من بهراء لهلكت ، وانصرفا على تلك الحال0
ثم إن ابا دواد اخرج بنين له ثلاثة فى تجارة الى الشام، فبلغ ذلك رقبة البهرانى، فبعث الى قومه فأخبرهم بما قال له أبو دواد عند المنذر، وأخبرهم أن القوم ولد أبى دواد ، فخرجوا الى الشام، فلقوهم فقتلوهم، وبعثوا برءوسهم إلى رقبة، فلما انته الرءوس صنع طعاما كثيرا، ثم أتى المنذر، فقال له : لقد اصطنعت لك طعاما كثيرا، فأنا أحب أن تتغذى عندى، فأتاه المنذر وأبو دواد معه، فبينا الجفان ترفع وتوضع، جاءته جفنة عليها بعض رءوس بنى ابى دواد، فوثب وقال : ابيت اللعن! إنى جارك، وقد ترى ما صنع بى، وكان رقبة ايضا جارا للمنذر0 فوقع المنذر منهما فى سوءة ، وأمر برقبة فحبس، وقال لأبى دواد : أما يرضيك توجيهى بكتيبتى الشهباء والدوسر إليهم؟ قال : بلى0 قال : قد فعلت0 فوجه إليهم بالكتيبتين0
فلما بلغ ذلك رقبة قال لامرأته : ويحك ! ألحقى بقومك فأنذريهم، فعمدت الى بعض إبل زوجها فركبته، ثم خرجت حتى أتت قومها، فلما قربت منهم تعرت من ثيابها، وصاحت وقالت : أنا النذير العريان، فأرسلتها مثلا ، فعرف القوم ما تريد، فصعدوا الى أعالى الشام، وأقبلت الكتيبتان فلم تصيبا منهم أحدا، فقال المنذر لأبى دواد: قد رأيت ما كان منهم، وأنا أدى كل ابن لك بمئتى بعير، فأمر له بست مئة بعير، فرضى بذلك، فقال فيه قيس بن زهير العبسى:
سأفعل ما بدا لى ثم آوي إلى جار كجار أبى دواد     "
وهذه القصة الثالثة كما هو واضح فيها كثير من الغلو ، وإن كانت توافق كثيرا من الطبائع العربية الحادة، ولا تخالف الواقع التاريخى الذى عاش فيه أبو دواد مقربا من المنذر بن ماء السماء0
والجمع بين الروايات الثلاث ليس عسيرا0 فلنا أن نتخيل أن أبا دواد وقومه نزلوا بالحارث بن همام فى أول مقدم قبيلتهم من البحرين مهزومين مطرودين على ايدى قبيلة عبد القيس، فأكرم وفادتهم وقضى حاجاتهم وأخلف بعض ما تلف من أموالهم0 وقد مدحه أبو دواد على حسن جواره فتناقل الرواة بعض هذا المدح الذى لم يعد له بين أيدينا وجود يذكر باستثناء تلك الأبيات الثلاثة التى اشرنا إليها عند حديثنا عن ناقة ابى دواد (الزباء) التى بركت فى فناء الحارث بن همام0 ثم زالت تلك العلاقة لأية أسباب طرأت أو إذا صح ماروى من أن الحارث كلف محاربة بنى إياد لحساب ملك الفرس "قباذ"0 فلما عاد الملك الى المنذر عاد بنو إياد ليعيشوا فى كنفة0 وأما أن يكون جار أبى دواد المقصود هو كعب بن مامة فهذا ما نستبعده لكونه ابن عمه0 والعرب لا تصف الكريم ذا المروءة بأنه (جار) فلان إلا اذا كان الجوار هو العلاقة الوحيدة بينهما كما هو الحال بين أبى دواد والمنذر، أو أبى دواد والحارث0 ولعل أبا دواد مدح الثلاثة فتناقل الرواة أخبار مديحة اياهم ثم سمعوا بقصة دفع أحدهم دية أولاده أو إخلاف ما تلف من ماله، فجعلوا كعبا مرة وجعلوا الحارث مرة ثانية وجعلوه المنذر مرة ثالثة0 وكل من الثلاثة من ممدوحى أبى دواد0
وليس الجوار بالأمر اليسير عند العرب، فقد كان من مفاخرهم حماية الجار وبخاصة اذا كان ذلك الجار غريبا لاذ بقوم أو استعاذ بهم أو استنصرهم فقد كانوا يبذلون فى سبيل حمايته كل ما يستطيعون من قوة0 وقد كان أبو دواد نفسه ممن يرعون حرمة الجار فهو يفخر بذلك فيقول عن قومه(17):
أرى جارنا آمنا وسطنا يروح بعقد وثيــق السبب
إذا ما عقدنا له ذمة شددنا العناج وعقد الكرب
والعناج عروة فى أسفل الدلو من باطن تشد الى أعلى الكرب، فإذا انقطع الحبل أمسك العناج الدلو حتى لايقع فى البئر ، والكرب هو الحبل الذى يربط به الدلو وقد يثنى ويثلث تقوية له، فهو يعنى بهذا شدة عنايتهم بالعهد الذى يربطهم بجيرانهم0
وفى موقف آخر نرى أبا دواد يعاتب بعض قومه من بنى كعب وعمرو فيذكر أنهم لم يحفظوا له ما ينبغى من حقوق الجوار فيقول(18):
كنت جارا لكم فأشمتم النا س بى اليوم آل كعب وعمرو
شركم حاضر ودركم در فردوس من الأرانب بكسر
فلا غرو إذا كان أبو داود يرعى للجوار هذه المنزلة، أن يكون هو نفسه خير مداح لمن يحسن جواره ويرعى حرمته سواء أكان ذلك الجار هو سيدة ومليكة المنذر أو ابن عمه كعبا أو الحارث بن همام0
شاعرية أبى دواد:
تدل النصوص التى وصلت الينا من شعر أبى دواد ، ومن أقوال نقاد الشعر ورواته عنه على أنه كان شاعرا مجيدا مطبوعا0 الا أن الرواة لم يتوسعوا فى رواية شعره لأن لغته ليست بنجدية كما نقل ابن قتيبة عن الأصمعى0
ويروى ابن قتيبة ايضا أن الحطيئة حين سئل من اشعر الناس؟ قال : الذى يقول:
لا أعد الاقتار عدما ولكـن فقد من قد رزئته الإعــدام
من رجال من الأقارب فادوا من حذاق ، هم الروس الكرام
فيهم للمــلاينين أنــاة وعُــرام إذا يراد العــرام
فعلى إثرهم تساقط نـفسى حسرات ، وذكـرهم لى سقام
وهذه القصيدة أجود شعره، ويستجاد منها قوله فى صفة إبله:
إبلى الإبل لايحوزها الـــرا عون، مج الندى عليها المدام
سمنت فاستحش أكرعها، ا الـ ـنى نى ولا السنام سنــام
فإذا أقبلت نقول : إكـــام مشرفات ، بين الإكام إكـام
وإذا أعرضت تقول : قـصور من سنماهيج فوقها آطــام
وإذا ما فجئتها بطــن غيث قلت : نخل قدحان منها صرام
فهى كالبيض فى الأداحى، مايو هب منها لمستتم عصـــام
وقد شهد لأبى دواد فى مقدرته الفذة على وصف الخيل كل من الأصمعى وأبى عبيدة وهما من أعلام اللغويين المتذوقين فقد قال الأصمعى فيما يروى صاحب الأغانى : "ثلاثة كانوا يصفون الخيل، لايقاربهم أحد : طفيل ، وأبو دواد ، والجعدى 0 فأما أبو دواد فإنه كان على خيل المنذر (بن ماء السماء)0 وأما طفيل فإنه كان يركبها وهو أغرل الى أن كبر، وأما الجعدى فإنه سمع ذكرها من اشعار الشعراء فأخذ عنهم "0
وقال أبو عبيدة : " أبو دواد أوصف الناس للفرس فى الجاهلية والإسلام وبعده طفيل الفتوى والنابغة الجعدى"0
ونقل صاحب الأغانى عن ابن الأعرابى قوله : " لم يصف أحد قط الخيل الا احتاج الى ابو دواد”0
وقد شهد لأبى دواد بالقدرة الفنية علم لغوى آخر هو أبو الأسود الدؤلى فقد روى الأصفهانى أن الامام عليا كرم الله وجهه كان من عادته أن يفطر الناس فى رمضان، وكان من عادته إذا فرغ الناس من العشاء، أن يتكلم معهم قليلا أو كثيرا0 وحدث ذات ليلة أن اختصم الناس حتى ارتفعت أصواتهم فى اشعر الناس 0 قال الإمام على لإبى الأسود الدؤلى : قل يا ابا الأسود0 فقال أبو  الأسود الدؤلى - وكان يتعصب لأبى ال دواد - : اشعر الناس الذى يقول:
ولقد اغتدى يدافع ركــنى أهو ذى ذو ميعة إضريـج
مخلط مزبل مكر مــــفر منفح مطرح سبوح خروج
سلهب شرجب كأن رماحـا حملته وفى السراة دمـوج
فهو يصف حصانه فى هذه الأبيات ذات الكلمات الغليظة بأنه حصان متمرس يحسن الجرى ويتفنن فيه، ويحسن مسابقة الخيل، وينتقل فى جرية من حال الى أحسن حال منها0
وقد نقل الأصفهانى ايضا شهادة الحطيئة لأبى دواد بأنه أشعر الناس تلك التى ذكرها ابن قتيبة، ومن مجموع هذه الشهادات يظهر لنا أن ابا دواد كان يتمتع بسمعة فنية طيبة حتى بعد عصره بعهد طويل0
أسرة أبى دواد :
يبدو أن ابا دواد كان مزواجا وكان ذا أسرة كبيرة، فقد سبق أن ذكرنا أن ثلاثة من ابنائه قتلهم رقبة البهرائى ووداهم المنذر بن ماء السماء كما سبق أن أشرنا الى أنه كنيته من المرجح أن يكون قد كنى بها بعد أن كبر ابنه دواد الذى أصبح بدوره شاعرا، وقد روى له صاحب المؤتلف والمختلف أبياتا قال إنه رثى بها أخاه هى قوله (19):
فبات فينا وأمسى تحت هادية يابعد يومك من ممسى واصباح
لايدفع السقم الا أن يسقيه ولو ملكنا مسحنا السقم بالراح
لا يصحب الغى الا حيث فارقه الى الرشاد ولا يصغى الى اللاجى
إلا أن الأصفهانى فى جعل هذه الأبيات فى رثاء أبيه أبى دواد وروى منها بيتين فقط هما:
فبات فينا وأمسى تحت هائرة ما بعد يومك من ممسى واصباح
لايدفع السقم الا أن نفديه ولو ملكنا مسحنا السقم بالراح
وواضح أن فيهما تصحيفا أو تحريفا0
ومما جعلنا نقول أن أبا دواد كان مزواجا تلك الروايات التى ساقها من ارخو له عن خلافاته مع زوجاته0 فقد روى أن زوجة أم دواد ماتت وتزوج غيرها وكان دواد قد اصبح شابا فتيا فأولعت به زوجة أبيه التى كانت مخطية عند أبى دواد ، فأرادت أن تكيد لدواد فأمرت أباه أن يطرده من منزله فخرج به وقد اردفه خلفه الى أرض جرداء ليس فيها شئ ، فألقى سوطه متعمدا وقال : أى دواد 0 أنزل فناولنى سوطى، فنزل، فدفع أبو دواد بعيرة بعيدا عنه ثم قال يخاطبه :
أدواد إن الأمر أصبح ما ترى فانظر دواد لأى أرض تعمد؟
فقال له دواد : على رسلك 0 فتمهل فى سيره فقال له دواد :
وبأى ظنك أن اقيم ببلدة جرداء ليس بغيرها متلدد؟
فرجع اليه وقال له : أنت والله ابنى حقا0 ثم رده الى منزله0 وطلق امرأته0
ورووا أنه كان متزوجا من امرأة يقال لها أم صبير فكانت تلومه على انفاقه المال فى المكرمات وبذله للأقربين والمحتاجين فلم يكن يسمع لومها فساءت بينه وبينها العلاقات حتى هجرته وفى هذه الزوجة يقول من قصيدة له :
فى ثلاثين ذعذعتها حقوق أصبحت أم حبتر تشكونى
زعمت لى بأننى افسد الما ل وأزويه عن قضاء ديونى
أملت أن أكون عبداً لمالى وتهنا بنافع الــمال دونى
ويقول فيها من قصيدة أخرى:
حاولت حين صرمتنى والمرء يعدز لا محاله
والدهر يلعب بالفتى والدهر أروغ من ثعاله
والمرء يكسب ماله والشح يورثه الكلاله
والعبد يقرع بالعصا والحر تكفيه المقاله
والسكت خير للفتى فالحين من بعض المقاله
وقد روى الأصفهانى ما يدل على أن أسرة ابى دواد ربما عقدت فيما بينها جلسات لمطارحة الشعر فمن ذلك ما رواه فقال:
بينا ابو دواد وزوجته وابنه وابنته على ربوة، وإياد إذ ذاك بالسواد، إذ خرج ثور من أجمة ، فقال أبو دواد:
وبدت له أذن توجـ س حرة وأحم وأرد
وقوائـم عوج لـها من خلفها زمع زوائد
كمقاعد الرقباء للضـ رباء أيديهم نواهـد
ثم قال : أنفذى يا أم دواد ، فقالت :
وبدت له أذن توجـ س حرة وأحم مولق
وقوائـم عوج لـه من خلفها زمع معلق
كمقاعد الرقباء للضـ رباء أيديهم بــألق
ثم قال : أنفذ يادواد ، فقال :
وبدت له أذن توجـ س حرة وأحم مرهف
وقوائـم عوج لـها من خلفها زمع ملفف
كمقاعد الرقباء للضـ رباء أيديهم تـلقف
ثم قال : أنفاى يا دوادة 0 قالت وما أقول مع من أخطأ0 قالوا : ومن أين أخطأناه ؟ قالت : جعلتم له قرنا واحدا، وله قرنان0 قالوا : فقولى 0 قالت :
وبدت له أذن توجـ ـس حرة وأحمتان
وقوائـم عوج لـها من خلفها زمع ثمان
كمقاعد الرقباء للمضـ رباء أيـديهم دوان
( اللغة - توجس : تسمع الى الصوت الخفى، وحرة : صادقة السمع مرهفة 0 والأحم : القرن الأسود0 والوارد : الطويل 0 الزمع : الشعر الذى فى مؤخرة رجلى الشاه أو الظبى ، واحدته زمعة0 الرقباء : الذين يمسكون عيونهم وينظرون سمات القداح 0 والضرباء : الذين يضربون القداح0 يريد بالانفاذ هنا : محاكاة شعره مع تغيير الكلمة الأخيرة منه، تمرينا على القول ، والتمرس بالقوافى)
فهل تكون هذه السطور دعوة للقراء والباحثين لبذل مزيد من الجهد لتجلية تراثنا العظيم المجهول؟0
المراجع :
1- أبو الفرج الأصفهانى، الأغانى ، ج16 0 دار احياء التراث العربى0 طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، ص 373 وما بعدها0
2- محمد بن حبيب ،كتاب كنى الشعراء ومن غلبت كنيته على اسمه0 تحقيق عبد السلام هارون، فى نوادر المخطوطات، ج5 0 ط2 (القاهرة : مكتبة مصطفى البابى الحلبى، 1973م) ص285 0
3-الآمدى : المؤتلف والمختلف 0 بيروت : دار الكتب العلمية ، ط2 ، 1982، ص 115 0
4- ابن قتيبة ، الشعر والشعراء، ج1 ، القاهرة : دار المعارف، 1982، ص 237 0
5- كارل بروكلمان ، تاريخ الأدب العربى، ج1، ترجمة د0 عبد الحليم النجار، ط5 ، القاهرة : دار المعارف، 1983، ص 118 0
6- أبو العلاء المعرى ، رسالة الصاهل والشامج 0 تحقيق د0 عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ، ط2 (القاهرة : دار المعارف، 1984) ، ص 158 0
7- ابن خلكان، وفيات الأعيان 0 ج5 تحقيق د: احسان عباس، بيروت : دار صادر ، 1977م ص 164 0
8- ابن منظور0 لسان العرب ، م2 - القاهرة : دار المعارف ، د0ت ، ص 1450 (مادة دود) ، ص 1189 مادة (خضف)
9- الأخفش الأصفر (ت235هـ) ، كتاب الاختيارين0 تحقيق د0 فخر الدين قباوة ، ط2 (بيروت : مؤسسة الرسالة، 1984) ص 140 0
10- السابق ، ص 558 0
11- د0 يحيى الجبورى ، الجاهلية (بغداد : مطبعة المعارف، 1968) ص 49
12- السابق ، ص 78 0
13- ابن خلكان ، مرجع سابق، ص ص 164-165
14- أنظر المرجع رقم (6) ص 158 0
15- أنظر المرجع رقم (1) ص ص 380-381 0
16- أبو العلاء المعرى، رسالة الغفران، تحقيق د0 بنت الشاطئ ، ط7 (القاهرة : دار المعارف، 1977)، ص 409 0
17- انظر ابن قتيبة (المرجع رقم 4) ، ص 240
18- أنظر المرجع رقم (6) ، ص 522 0
19- انظر المرجع رقم (3) ص 116 0

مساحة إعلانية