مساحة إعلانية
اشتمت رائحة المطر، على الرغم من أن النوافذ جميعها مغلقة. هرعت ناحية النافذة، وأمسكت بطرف إحدى ستائرها ونظرت من خلفها، فهالها مشهد المطر المنهمر سريعاً. شئ ما دغدغ مشاعرها، ففتحت النافذة دون تردد، وخلعت بيدها المنديل المنعقد على شعرها، وظلت تهز رأسها إلى ان فردته تحت مياه المطر الباردة. ظلت تحرك رأسها ويديها تحت المطر، لم تدر كم من الوقت مر ولكنها نظرت إلى الشارع الممتلئ بالماء، فأدركت إنها ظلت تحت المطر عدة ساعات.
عادت مرة أخرى إلى مقعدها، وجلست منهكة؛ فهى لم تعد هذه الفتاة العشرينية، التى كانت تجرى تحت المطر مع حبيبها. لقد أمست فى السبعين من عمرها، لم تدر كيف مرت كل هذه الأعوام، وكيف عاشت كل هذا الوقت بدونه.
مى، فتاة فى العشرين من عمرها، تقدم لخطبتها هذا الشاب الذى كان دائماً ملازماً لأخيها، وكان هو الوحيد المسموح له بدخول المنزل، نظراً لدماثة خلقه وحلاوة لسانه، بالرغم من قلة كلامه. لم يكن من الصعب على الأسرة اتخاذ قرار الموافقة على خليل، حيث إنهم كانوا يعتبرونه واحدا من العائلة، ولم يكن ينقصه إلا صفة تسند إليه فى هذا البيت، حتى يتسنى له أن يعيش معهم.
لم تطر مى من الفرحة، ولكنها لم تحزن. كان خليل هو الأفضل بالنسبة لها، رغم إنها لم تغادر منزلها فى أى وقت ولأي سبب، إلا وعادت ومن خلفها سيدة تريد مقابلة امها لطلب يدها لأبنها أو أحد أقاربها. كانت مى تشتهر فى منطقتها بجمالها الجذاب، وحسن خلقها ايضاً، لذا كان يتهافت عليها الخاطبون، ولكن حظها جاء من نصيب خليل، الذى أحبها حباً كبيراً منذ أن رآها لأول مرة، وهى فى الخامسة عشر من عمرها، ومنذ تلك اللحظة لم يستطع إيقاف دقات فلبه كلما لمحها.
تمت خطبتهما، وظلا ستة أشهر يذهبان إلى محلات عديدة لشراء ما يلزم بيتهما الجديد. كانت مى فى البداية تتعامل بهدوء، كعروس تشترى اشياءها فحسب، ولكن بعد مرور وقت قليل، أحست بقلبها يخفق، خاصة فى ذلك اليوم الذى أصر خليل على دعوتها لتناول الكريمة المثلجة، على الرغم من برودة الجو، حيث كانا فى شهر يناير. ولكنها تقسم حتى اليوم، انها كانت ألذ كريمة مثلجة تناولتها فى حياتها. وما إن امسكت بالعلبة فى يدها، حتى انهمر المطر وأغرقها وأغرق خليل، فما كان من خليل إلا أن امسك يدها واخذا يعدوان تحت المطر، وهو يقفز معها كالأطفال. ومنذ ذلك الحين، وقعت مى فى غرام المطر.. وغرام خليل أيضاً.
فتحت مى عينيها على صوت ابنتها، وهى تخبرها ان المطر قد توقف، وتسألها أن تغلق النافذة، لأن الجو بارد عليها. ولكن مى طلبت منها الانتظار قليلاً، فالجو رائع، وهى لم تشبع بعد. تعودت فاطيما على أن تجد النافذة مفتوحة على مصرعيها وقت هطول المطر، فهذا مشهد مألوف فى البيت منذ طفولتها، وصارت تدرك عشق امها لهذه المياه، حتى ولو قطرات قليلة يمن الله بها علينا من السماء.
أراحت مى رأسها مرة أخرى، وهى تنظر إلى السماء الصافية، بعد أن أفرغت كل ما بداخلها من سحب، وكأنها إحدى اللوحات الفنية القديمة، وأخذت تفكر فى خليل وتتساءل:
هل حقا لن تراه مرة أخرى؟
هل انتهت العلاقة عند هذا الحد؟
إن علاقة مي بخليل انقطعت منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. انقطعت منذ أن قررت ان تربى ابناءها وحيدة، دون تدخل هذا الرجل البائس المتعلق بكل ما فى الدنيا، العاشق لأمواله إلى حد الجنون.
تحملت مى بخل خليل عشر سنوات.. نعم عشر سنوات، استطاع خلالهم ان يستنفذ كل شئ حلو لديها.. طاقة، حب، سعادة، مشاعر.. وأموال أيضاً؛ فهى لم تكن تريد ان يشعر أحد أبنائها بأنه أقل من أصدقائه، لذا كانت تفعل المستحيل لإسعادهم. إنها حتى لم تسع إلى الطلاق، ولكن فضلت الانفصال دون طلاق، فهى لم تكن تفكر فى الزواج مرة أخرى. إنها مكتفية بأبنائها، ولا تريد أى شخص يشاركهم هذا الحب. وبالفعل، أعطتهم بدون حساب، وانفصل عنهم خليل، ولكن تعود زيارتهم أسبوعياً، وكانت ترحب به، مثله مثل اى ضيف. ولكنه كان يكتفى بالزيارة وكأنه ضيف فعلا، لا يحاول السؤال عن مصروفاتهم ولا دروسهم، وهى لم تحاول إقحامه فى مشاكلهم، واعتمدت على نفسها وعملها، وبعض الاموال التى كان يعطيها اخواتها لأبنائها بحجة شراء الحلوى، والتى كانت مبالغ كبيرة بالنسبة لطفل سيشترى حلوى.
اليوم، وبعد انفصال دام لكل هذه السنوات، مات خليل.. مات الحبيب، الذى رغم كل أفعاله فهى تعشقه. تذكرت كل شئ وكأنه أمس.. اطالت النظر إلى السماء وانهمرت الامطار مرة أخرى، وكأنها تودعهما..
تودع مى وخليل.
* من مجموعة بيت المغاربة