مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

الأرغول الحي وحكاية النار الباردة .. رؤية نقدية في سردية كرم الصباغ بقلم سمير لوبه

2025-04-21 16:45:02 - 
الأرغول الحي وحكاية النار الباردة .. رؤية نقدية في سردية كرم الصباغ   بقلم سمير لوبه
سمي
منبر

تندرج قصة "أرغول حي لم تأكله النار" ضمن ما يمكن تسميته بـ"الأدب الرمزي الماورائي"، حيث تتقاطع الأسطورة الشعبية مع وجع الإنسان المعاصر في مشهد حكائي ينوس بين الخرافة والواقع، بين الرماد والروح، بين الموسيقى والنار. يقدم الكاتب كرم الصباغ نصًا مشحونًا بالرمزية والإيحاء، لكنه أيضًا شديد الالتحام بالتربة الثقافية والاجتماعية التي ينتمي إليها، مما يمنح النص طزاجة في التعبير وأصالة في المرجع.


-  العنوان ودلالته الرمزية:
العنوان وحده كافٍ لإثارة فضول القارئ وتدشين الأسئلة الكبرى التي تسكن النص. فـ"الأرغول" ليس مجرد آلة موسيقية فلكلورية، بل كائن حي في وعي الراوي، "لم تأكله النار"، وهذه المفارقة تفتح الباب لتأويلات لاهوتية وفلسفية: هل الأرغول رمز لروح خالدة؟ لفن لا يُمحى؟ لصوت مقاوم يحيا رغم الاحتراق؟
النار هنا ليست أداة دمار فحسب، بل هي تجربة تطهير، أو امتحان وجودي للكينونة. أن ينجو الأرغول من الاحتراق، يعني أن ثمّة ما هو أسمى من المادة، ما هو أبقى من الجسد: الصوت، الفن، أو الذاكرة.
-  البناء السردي:
 تناثر الزمن وتكثيف الرمز، يبني الكاتب قصته على تراكب سردي ذكي، لا يعتمد خطًا زمنيًا تقليديًا، بل يتشظى بين الحاضر والذاكرة، بين الحدث الواقعي والطقوس الميتافيزيقية. يبدأ النص برصد لحظة الاحتراق – لحظة موت – لكنها تتراجع لصالح التأمل في معجزة النجاة، وكأننا في حضرة بعث لا موت.
كما أن استدعاء صورة "الخال عبد الستار" ليس مجرد توظيف لشخصية عجائزية حكيمة، بل استحضار لجذر ثقافي عميق: المعلّم الشعبي، الحاوي، الراوي القديم، الموسيقي المتصوف، الذي يحفظ في ذاكرته فنّ الأرغول، ويربط الأرض بالسماء من خلال نفخةٍ واحدة.
-  اللغة والتشكيل الجمالي:
يعتمد كرم الصباغ على لغةٍ مكثفة، مشبعة بالإيحاء والمجاز، لكنها تظل على صلةٍ وثيقة بالواقع المعاش. تأتي لغته مشغولة على نار هادئة، فيها من الشعر بقدر ما فيها من الحكمة الشعبية. الألفاظ ذات وقع سمعي بصري: "الرماد"، "النفخ"، "اللحن"، "الخشب"، "النار"، وهي كلمات تتراكم لتخلق مشهدية شديدة التجسيد، كما أن الجمل تتكئ غالبًا على إيقاع داخلي هادئ، أقرب إلى تراتيل المتصوفة، مما يضفي على النص طابعًا قداسيًا دون أن يغادر واقعيته.
-  الشخصية الرئيسة:
 الأرغول كذات ناطقة  ، في خروج حاسم عن البناء التقليدي، لا يُسلط الكاتب الضوء على شخصية بشرية بوصفها المحور، بل يمنح الأرغول ذاته الحياة والبطولة، الأرغول في هذه القصة ليس أداة، بل كائن روحي له "قلب من خشب السريس"، وله "ذاكرة لا تشتعل"، ويبدو وكأنه شاهد على مجزرة روحية حدثت في الخفاء، هذا التكنيك السردي (أنسنة الجماد) ينتمي إلى تراث غني في الأدب الرمزي، لكنه هنا يحمل خصوصية فلكلورية، إذ يمنح "آلة موسيقية شعبية" هالة القداسة، كأنها "تابوت العهد" الفني لشعب يعاني من التهميش والنسيان.
- السياق الثقافي والاجتماعي:
القصة لا تنفصل عن السياق الاجتماعي الذي خرجت منه. هناك ريف، وصعيد، وذاكرة جمعية خفية تنزف خلف سطورها، الخال عبد الستار هو حفيد حقيقي لمشايخ الطرق الصوفية الذين كانوا يعزفون على الأرغول في الموالد، والقرى، والجنائز، فرحين أو حزانى، نجاة الأرغول من النار هي صرخة ضد طمس الهوية، ضد احتراق الذاكرة الشعبية، ضد تجاهل الفنون التي لا تتكئ على سلطة المركز، بل تصدر من جذور الأرض.
-  البعد الصوفي والتأويل الفلسفي:
النفخ في الأرغول فعل أشبه بالتجلي، والنجاة من النار تحاكي معجزة إبراهيم، هذه الاستعارات تفتح مجالًا لتأويل القصة كرحلة تطهير صوفية يعبر فيها الأرغول "النار" ليظهر أنقى، كأنها النار التي تصقل الذهب لا تحرقه، النفخ أيضًا يُذكرنا بنفخة الخلق الأولى  "ونفخت فيه من روحي"، مما يعزز من الطابع القداسي للأرغول ويحوله إلى رمز للخلق الفني الإلهي، للفن الذي يهب الحياة.
-  التناص الأدبي والثقافي:
يحفل النص بتناصات عميقة من قصة إبراهيم والنار، إلى الموروث الشعبي الصعيدي، إلى صورة "العازف الأخير" التي تتكرر في الأساطير الشرقية. كما يمكن ملاحظة استلهام صوفي من أفكار النفَس والريح والطهارة، وهذا التعدد في الطبقات يجعل القصة مفتوحة على قراءات متعددة: نفسية، صوفية، اجتماعية، وحتى بيئية (في علاقتها بين الإنسان والمادة).
في النهاية نستطيع القول  "أرغول حي لم تأكله النار" ليست مجرد قصة عن آلة موسيقية نجت من الاحتراق، بل هي مرآة لأسئلة الإنسان الكبرى، ما الذي ينجو من النار؟ الجسد أم الصوت؟ المادة أم الذكرى؟ لقد نجح كرم الصباغ في بناء سردي رشيق، متين وموارٍ بالتأملات يحمل في ثناياه نغمة حزينة لكنها عنيدة تنبعث من عمق التاريخ الشعبي وتصر على الحياة رغم الرماد.
إنها قصة قصيرة تقول الكثير وتُقرأ مرات ومرات .

مساحة إعلانية