مساحة إعلانية
يا إلهي لقد ضللت الطريق ، أين اختفى رفاقي ؟ ألم نكن نسير سوية ؟ هل ابتلعتهم الأرض ؟ أم تهت عنهم وأنا ساهمة ؟.بحدقتين متربصتين تجول بهما في كل اتجاه ..راعَها وقوفها وحيدة تخنقها حيرة فَزِعة ، والخوف يمزق قلبها المضطرب في جسدها النحيل توشك أن تفقد صوابها .المكان خال إلا منها ، يغشاه سكون خائف من سكونه .لم يكن لها بد من مواصلة السير . الطريق وعرة شاقة .. أحجارها الحادة المتناثرة تخترق حذاءها المتهالك تدمي قدميها .
لم يثنها ذلك عن عزمها للوصول لمبتغاها ، فهي تمسك وعاءها تمني النفس بالعودة ظافرة بشيء من طعام تسكت به صراخ معدتها وأمها العاجزة التي تنتظرها في مخيم مضرج بأوجاع الشتات .يلوح في خلدها رغيف شهي لكنه ذاو في مسافات المحال .وكلما أوغلت في السير تملكتها الحيرة وازداد شعورها بغرقها في التيه والضياع .الشمس تجنح للمغيب ، ومن حمرة الشفق يسّاقط صمت مهيب ..أيقنت أن ليلا قادما سينوء بسرب من عبراتها فقد بدأ اليأس يتسلل إلى قلبها .الجوع يعتصرها ، وقفت تستجدي أنفاسها والإعياء يستبد بكل مفصل في جسدها ، شخصت ببصرها إلى غير بعيد تراءى لها أضواء ساطعة ، تهللت أساريرها ، تحاملت على إجهادها ، خالت أنها ستقوى على الركض لكنها ما اسطاعت لبلوغ الإجهاد فيها منتهاه فواصلت سيرها تتوكأ بقايا من عزمها . إقتربت شيئا فشيئا حتى أصبحت أمام تلك الأضواء لاح لها قصر منيف لم تر مثله ، تحيط به حديقة غناء ، تتدلى من أشجارها بسخاء صنوف من الثمرات والفاكهة ، إنتابها الذهول ،لم تصدق ماتراه
ــ هل أنا في حلم ؟ كيف لم يصل أحد لهذا القصر وكيف لم يطاله القصف والمدينة قد دمرت ، وكيف نجوع وكل هذا الخير ليس ببعيد عنا ؟؟
أسئلة كثيرة عصفت بها لم تجد لها جوابا .نسيت وَصَبَها واستعادت شيئا من قواها
ــ هذا مبتغاي
قالت ذلك وقد أصبحت بمحاذاة السور ، تلمسته بفرح مرتجف .
ــ كيف أدلف إلى حديقة هذا القصر ؟
طافت حول سورها المترامي وجدت الباب أخيرا ، وزادت فرحتها أنه لم يكن موصدا.. هبت منها نسائم جنائنية الضوع ، علوية النقاء وانهمر غيث في عتمة روحها فأينعت ٱمال في منافي جدبها الكئيب .خرير الماء وهديل الأطيار أثمل سمعها
ـ في أي مكان و زمان أنا ؟!!
همت بالدخول ، وإذا بقامة طويلة لرجل تقف في وجهها ، أفزعها ظهوره المباغت، رفعت رأسها بخوف لترى من هذا الذي يمنع جائعة عطشى من الدخول ؟؟هالها مارأت ، كادت تصرخ فالرجل نصفه الأيمن من جسده مثخن بجراح تقطر دما ، إقشعرت أوصالها ، تساءلت :
ـ كيف لا يتألم ، كيف له الوقوف بهذا الثبات ؟ لم لا يداوي جراحه ويوقف نزفها ؟
أسئلة كثيرة اقتحمت رأسها استجمعت قواها وحاولت الدخول .. لكنه منعها :
ـ دعني أدخل
ـ لا
كان صوته غريبا كأنه ٱت من البعيد من ٱخر نقطة في الأفق
ــ جائعة وأهلي جائعون ، أيام مضت ونحن بلا طعام دعني أدخل ، من حقنا أن نأخذ شيئا من هذا الخير ،نحن في مجاعة ، لا يحق لك منعي .
ـ لكل شيء ثمن وأنا دفعت ثمن هذا .
جالت ببصرها وهي تتساءل :
ومن يستطع دفع ثمن كل هذا ؟.
شدها رؤيتها ل( الكوفية )
الملتفة حول عنقه مغرورقة بدمائه مشمسة الدفقات تهامس الأنداء بأوتار قانيات تزخ ربيعا في مدائن الحبق .
وجدت نفسها تسأله :
ـ الا تتألم ؟
ـ لا .
ـ كيف تقوى على العيش بهذه الجراح القاتلة ؟؟
ـ بهذه الجراح أفنيتُ موتى .
ثم أغلق الباب .وقفت مذهولة لا تفهم ما كان يرمي إليه بكلماته .
سمعت خطواته فلم تدر أكانت وقع خطى أم وقع صبح وعروج إلى الملكوت .
أذهلها الغريب الجريح .. ظلت كلماته عالقة في وجدانها .. ترامى لسمعها أصوات رفاقها .إستدارت تناديهم :
ـ أنا هنا .. وقد وجدت طعاما كثيرا سيغني المدينة بأسرها
ركضت نحوهم . لكن يا للهول وجدت نفسها مرة أخرى .. تائهة .
رأت جماعة من الناس يتحلقون حول جثة لشهيد يزفونه نحو المقبرة
اقتربت منهم ، تأملت الشهيد .. هالها مارأت ..وقع الوعاء من يدها
أخذت تصرخ :
ـ إنه هو .. إنه هو .. بكوفيته .. بجراحه النازفة . أقسم أنه كان يحدثني قبل قليل . نظر إليها أحدهم باندهاش :
ــ لكنه استشهد منذ ثلاثة أيام .