مساحة إعلانية
قديما قال الجاحظ " مقوّمات العمل الإبداعى اللفظ والمعنى ، فليس الشأن فى إيراد المعانى ، وإنما هو جودة اللفظ وصفاؤه "
و لا يُصبح النصُّ نصّا إلا إذا كان رسالةً لغوية تشغل حيّزا معيّنا ، فيها جدلية، محكمة مضفورة من المفردات والبنية التشكيلية ، والوحدة الموضوعية ، وإلا إذا اكتملت عناصر الموهبة الفنية المتوهّجة ، وعدم اقتصار وحدتها على الوزن والقافية دون المعنى ، وهذا لا يتأتى مالم يتمتع الشاعر بطاقة هائلة ، وقدرة فذة ، على طرح التراث بإبداع جديد جذّاب ، وبصورة بالغة التركيز والاتساق والسلاسة والطرافة ، فالفكرة فى الشعر عنصر رئيس..!
وقوالب الفن القولى الشعبى متعدّدة الأنواع والأسماء ، وكل نوع منها ينتسب إلى منطقة مجتمعية بعينها ، فكل مكان له تجاربه الخاصة ، وطريقته فى التعبير عن هذه التجربة ، وبلهجته الخاصة ، والتجربة لا تُعطَى ولا تُستعار ، وإذا اتخدنا من صعيد مصر مثالا على ما نقول ، فسوف نجده زاخرا بشتى أنواع التراث القولى ، ففى ما يُعرف بـ "منطقة قنا" الحالية ، وما يجاورها ، نجد الفنون القولية ، كالعديد، وفن الواو ، وفن الموال ، كما نجد النميم ، والكف ، فى أسوان والبحر الأحمر، ومن فضل القول أن نذكر أنه لكل أدب بيئته التى لا يمكن فصله عنها ، ولا ينجح من لم يخاطب الناس بلغتهم ، أى اللغة التقليدية التى أقاموا عليها، وعرفوا بها أنفسهم وتقاليدهم ، ووجود التواصل الحار بين المبدع والناس بطريقة " القوالة " هذه - مع مراعاة أن خلق مربع فن " الواو " عملية معقدة - تعتمد على منطق اللغة ، أقصد قربها من أو بعدها عن وجدان جمهور المتلقين ، كما تحتاج إلى وعى كبير بطبيعة هذا الفن شديد الخصوصية ، هذا الفن الذى كان و سيظل نتاج ثقافة خاصة ضاربة فى أعماق الأرض المصرية الجنوبية ، و كذلك يحتاج بصيرةً واقعية بالجمهور الذى أدمن لعبة المربع الفنية ، فالجمهور يحاور الصياغة الفنية بالحسّ ، ويستطيع دائما تبين جيّد الشعر من رديئه ،وهم لا يقنعهم إلا أن يكون النص مرآة لضمير الجماعة، ترى فيه وجهها و تاريخها وأحلامها ، فى لغة لا تبتعد عن لغتها اليومية .. ومجمل القول أن منطق اللغة هو فى اقترابها من أو ابتعادها عن الوجدان العام للناس .. والشاعر الشعبى فرد فى جماعة ، يشاركها كل حياتها الطبيعية ، من عاداتها وتقاليدها ولغتها ، فهو مفوّض فى التعبير عنها ، وتأتمنه على تراثها، وهى التى تعطيه خبرتها الطويلة ، وتعطيه القوانين الفنية التى يعبّر بها ، والموضوع الذى يهتم به ، و تستطيع أن تسلب منه ذلك التفويض فى التعبير عنها ، حينما يُخطئ أو يُدخل فى قولها ما ليس منه ، أو يُقصّر فى طريقة التعبير ، أو لا يُخلص فيما تمّ تفويضه فيه ، فتسحب اعترافها به فى أى لحظة ، وعلى القوّال أن يكون متأكدا من أن رقابتها على فنه تتم يوميا .. !