مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب من تلك الأيام:اللهم احفظنا واحفظكم:(1-3)

2024-11-21 12:37:19 -  تحديث:  2024-11-21 13:15:37 - 
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي يكتب من تلك الأيام:اللهم احفظنا واحفظكم:(1-3)
الشاعر والباحث درويش الأسيوطي

حين يدخلك الربُّ في التجربة..!!

كان صديقي المسيحي الطيب عزت  يدعو الله .. فأسمعه يقول : يارب لا  تدخلنا في التجربة .. كنت أعلم ما الذي يعنيه بالتجربة .. وكنت أعرف أن المعرفة الحقيقية أساسها التجربة .. فلا أقول آمين، لذلك رغم ما انتابني من هلع وقتي .. حين علمت أني مصاب (اللهم أحفظنا واحفظكم) بالسرطان، أحسست بلمعة من السعادة تلوح في ضبابية المشهد الوجداني المقبض. فعلى الأقل سوف تتاح  لي أخيرا فرصة التعرف على تجربة وجدانية جديدة ، تجربة المصاب بالسرطان والتي لا شك أنها تختلف عما نشاهده في المسلسلات والأفلام . 
 تذكرت كيف كنت في مراهقتي أسخر من صور ومناظر من ينتحبون عند دخول أبواب  (الكعبة) البيت الحرام، وكنت أقول لنفسي ولأصدقائي أن هذا لون من ألوان( المُحْنِ الديني ) لزوم التصوير بـ (الإحرام ) وادعاء الورع، وحين شاء الله أن أحج بيت الله الحرام عام 1986، ورأيت الكعبة المشرفة لأول مرة ، لا أدري كيف انخرطت فجأة في نحيب غريب، وأنا أردد: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا، وعرفت لحظتها أن الأمور ليست كما نراها في الصور والأفلام. وأن المعرفة الحقيقية لا القشرية؛ لا تكون إلا بالتجربة. 
 كنت قد لاحظت خلال السنوات الأخيرة تراجع طبقة صوتي، ولم أعد قادرا على تلوين صوتي بالشكل المسرحي الذي ألفته كممثل مسرحي في فرقة أسيوط القومية المسرحية، وعددت هذا التراجع من آثار وباء ( الكورونا) الذي أفقد أخي رشدي رحمه الله بصره ، ذلك الوباء الذي لم يترك أحدا وعلم عليه كما يقولون، فداومت على تناول مهدئات السعال وبعض الأدوية التي يصفها لي الأصدقاء لتقوية المناعة دون جدوى، حتى جاء يوم وجدتني أكمل بصعوبة بالغة محاضرتي في (نادي أدب أسيوط الجديدة) حول بنية المربع الشعري التراثي. لحظتها قررت وبإلحاح من زوجي و أبنائي أن ألجأ مضطرا إلى الطبيب، 
          فحصني الطبيب المختص بالتخاطب، وأشار على بإجراء جراحة لاستئصال شيء على (الحبل الصوتي الأيسر) أسماه تخفيفا ( لحمية ). ورأيت الورم في (الفديو)، واندهشت لأمر ربما لم يرد على ذهن الطبيب ولا ذهنكم، فقد كنت أعتقد وحتى لحظتها أن أوتار صوتي كأوتار الكمان، تمتد بطول الرقبة، فقد اكتشفت أنها بالعرض ..!! وأن الحنجرة وحبالها الصوتية كسدادة (مثل تفتيش المجاري)، تسد مدخل البلعوم، ولكن بسداد متحرك، يفتح ويغلق كما تفتح وتغلق الأبواب الآلية في فنادق الخمس نجوم. لكن الباب عندي لا يغلق بإحكام لأن أحد (الضلفتين ) مثقلة بالورم . و اقتنعت بضرورة إجراء العملية الجراحية التي أشار بها طبيب.  وهون على (الدكتور عماد عيسى) ابن خالي العملية التي وصفها بالبسيطة: فابنة خالك أحمد عملتها، وروحت في نفس اليوم، !! 
كنت أسمع أن بعض المفكرين يرون أن الزمن لا وجود له، أو أنه نسبي ..وكنت أسلم لعجزي عن التأويل بما يقولون أو أرفضه ، ولكن تجربتي الأولى مع التخدير أضافت إلى معرفتي الكثير ... قبل أن أدخل إلى غرفة التخدير كنت أفكر في الآلية التي يتم بها التخدير .. قلت لنفسي بعد أن عجزت عن الوصول إلى معرفة أطمئن إليها .. سوف أبحث فيما بعد في كيفية حدوث الخدر الثقيل .. وحين أفقت من التخدير الكلي، وجدت على لساني قوله تعالى على لسان أهل الكهف : لبثنا يوما أو بعض يوم .. كانت تجربة التخدير الكلي أمرا  مبهجا .. فلا ألم لجرح، ولاشعور ولا إحساس بشيء بعد أن طلبت مني الممرضة بألية أن آخذ نفسا عميقا.. أخذت النفس، وأخذني النفس المختلط بالمخدر إلى اللاوجود المريح، ما أبدع أن ينقطع وعيك فلا تدري ولا تحس حتى بما بجري لجسدك ذاته. وظل السؤال: أين يقع هذا الجزء من كيانك الذي يحتوي على الوعي  ... ؟
اقتطع الطبيب بآلاته (اللحمية)، واقتطع - فيما اقتطع - عينة أرسلها للتحليل كأمر إجرائي، وعدت إلى البيت أتابع العلاج ، وحين سألت ابني عن نتائج العينة .. وجدته يقلل من أهمية ذلك .. قال : ما تشغلش بالك يا بابا .. المهم تتابع علاجك.. والعينة في المعمل .. ما تقلقش.
 لكني كنت قد قلقت بالفعل. قبلها لم يدر بخلدي أن الأمر قد يتعدى اللحمية التي أزالها الطبيب. وحينما عاودت السؤال عن نتائج العينة قال لي أحمد : العينة كويسه بس.. عند بس هذه.. انفجر في داخلي بركان القلق الذي  كنت أحبسه، و وجدتني أصرخ في وجهه المندهش : فيه إيه ؟!!  فهم يتعاملون معي كطفل غر، يسربون إلى المعلومة بنعومة لم أعتدها .. وقد قر في ذهني فورا أنه(السرطان)، ورسمت في مخيلتي صورة الكائن الشوكي الذي نراه في صور الدعايات الصحية  .. 
       رغم تهوين الأبناء من مشوار طبيب الأورام الذي بالتأكيد سيقول لنا أن الموضوع بسيط .. ويمكن يعوز حقنه ولا اتنين .. والا كام جلسه ..ويمكن يقول كله تمام .. لكني شعرت بهذا الشعور المركب من الخوف والسعادة ...الخوف الفكري الفطري من الموت والسعادة الوجدانية بالتجربة التي تعني المعرفة ....قلت لنفسي : ها قد أدخلنا الرب في التجربة  يا مقدس عزت .. !!

مساحة إعلانية