مساحة إعلانية
كعادته يمارس القمر هوايته في فضح المتسللين من القرية في ذلك الوقت المتأخر ، ولكن ضوءه الذابل في تلك الليلة لم يظهر إلاَّ ثلاثة أشباح تتجه نحو صوب الجبل البحري ، ولكي يتم التعرف عليهم لابد من الاقتراب منهم أكتر ليظهر عادل المنياوي بوجهه المصبوغ بشمس الواحة ، وجسمه الممتلئ ، وأسعد أبو رحمة بوجه المثلث وعوده النحيل ، ورأفت الأسطورة بعضلاته المطبوعة على أكمامه الضيقة ، كان الثلاثة يحملون رؤوسهم على أكتافهم معلقين بها مقاطف جلدية ، بالإضافة إلى ذلك كان رأفت الأسطورة يحمل سيخًا حديديًا سميكًا ومدببًا في أحد طرفيه ، كان ثلاثتهم يتفقون على رأي واحد . هذه الليلة سيفعلونها ، وينهون مغامرة استمرت شهورًا ، بدأت عندما خرجوا يبحثون عن تلة حبلى لم يولدها أحد بعد ، وبعد محاولات فاشلة ذهبوا إلى الحاج راشد سالم المعروف بخبرته في مثل هذه الأمور ، ومن خلالها أصبح لديه أكثر من لودر وسيارة نقل يستخدمهم في أعمال الحفر ونقل مواد البناء .
جلسوا في صالة شقته الواسعة ، كانت ممتلئة بالأثاث الغالي والتحف الثمينة ، وبعد أن وضع أمامهم طبق العنب وأكواب الشاي جلس أمامهم بشعره يستند على عكازه الأسود اللامع وهو ينظر في عيونهم يدفعه الفضول لاستكشاف سر مجيئهم . وأخيرًا تكلم أسعد أبو رحمة وأخبر الحاج بطمعهم في مساعدته لهم بشيخ يساعدهم في تحليل تربة التلة قبل البدء في الحفر والتعب وبعد تمنع ومحاولات منهم في البداية نظر إليهم الحاج راشد بإعجاب وهو يمسك طرف شاربه ، ( يبرمه ) بين أصابعه ، ثم قال :
ــ عفارم عليكم يا ولاد أهو ده الشباب اللي يفرح ولا بلاش مش أحسن من قاعدة القهاوي انتوا جيتوا المكان الصح وأنا مش هبخل عليكم بحاجة وانتوا زي أولادي .
قام الحاج راشد ، وذهب إلى الداخل ، وتركهم في نشوة السعادة ، وبعد دقائق عاد وفي يده سيخ حديد طويل وسميك ، وأحد طرفيه مذبب وقال لهم :
ــ خدوا مني نصيحة . شيخك هو سيخك . نظروا إليه باستغراب دون أن يفهموا شيئًا فبدأ يشرح لهم كيف يقومون بالكشف على التلة بغرس السيخ في بطنها لمعرفة العاقر من الحبلى قبل أن يحفروا فيها
أمسكوا بالسيخ الحديدي وهم يطوقون الحاج راشد بالشكر والدعوات ، وقبل أن يستعدوا للخروج قال لهم :
ــ بس أنا ليا شرط .
تسمروا مكانهم ، ثم قال عادل المنياوي بتوجس .
ــ خير ياحاج . إيه شرطك ؟
قال الحاج راشد وهو يوزع نظره عليهم :
ــ أكون شريك معاكم ، وأول ما توصلوا لحاجة متفتحوش إلاَّ وأنا وياكم .
نظروا إلى بعضهم قبل أن يقول أسعد أبو رحمة :
ــ وماله ياحاج ، ده حتى الخير على وشك يزيد .
تهلل وجه الحاج راشد وقال :
ــ وماليكم عليا حلفان أنا حاسس إنكم ولادي تمام .
استأذنوا في الإنصراف ، وهم يخرجون زفيرهم بقوة .
في الأسبوع الأول كانوا يغرسون السيخ الحديدي في بطن تلة وراء أخرى حتى عثروا على ضالتهم ، فانشغلوا بعدها في الحفر متدثرين بالظلام حتى لا يكشف أحد أمرهم ، وفي إحدى الليالي رقصت قلوبهم عندما سمعوا رنين السيخ ، فقد وصلوا أخيرًا إلى المولود الذي يطلبونه من ومن .
في الليلة التالية ذهبوا إلى الحاج راشد الذي ابتسم مرحبًا بهم عندما رأى بشائر النجاح في عيونهم . أخبروه أنهم سيخرجون مولودهم الليلة ، فاعترض منزعجًا وقال محدثًا بلهجة الخبير :
ــ إوعوا . يعني تتعبوا كل الأيام اللي فاتت ، وتفضحوا نفسكم في الآخر .
قال له أسعد أبو رحمة مستفسرًا :
ــ إزاي الكلام ده ياحاج .
قال الحاج راشد في نبرة الناصح :
ــ إفرض حد شافكم وانتوا شايلين الحاجة هيبقى شكلكم إزاي .
قال عادل المنياوي :
ــ والحل إيه ياعم الحاج ؟
أجاب الحاج راشد في هدوء :
ــ إحنا نستنى الجمعة الجاية بعد صلاة العصر وناخد ( القلاب ) وكأننا هنجيب نقلة زلط ونجيب الحاجة ولامن شاف ولا من دري .
أبدوا إعجابهم بمكر الحاج راشد وأبدوا ترحيبهم بالفكرة ، وانصرفوا على وعد بلقاء يوم الجمعة ، ولكن مرت الجمعة ، وأكثر من جمعة بعدها ، وكل مرة يؤجل الحاج راشد الموعد متعللًا بأي حجة .
نفذ صبره ، وقرروا هذه الليلة أن يذهبوا بمفردهم دون انتظار الحاج راشد الذي لاشك أنه سيفصح عن مخالفتهم لكلامه عندما يرى حقه أمامه ، وهذا هو المهم .
أحلامهم على بعد ( فركة كعب ) على رأي رأفت الأسطورة ، وستصبح بعد قليل حقيقة ظاهرة ، وبعدها سيذهب كل منهم إلى حال سبيله ف(عادل المنياوي) سيأخذ زوجته إلى أحد المصايف كما يفعل الأغنياء ( ويعيش له يومين ) ويرى الدنيا من جانب آخر وأسعد أبو رحمة سيشتري أرضًا زراعية ليزرع في أرضه ، ويكون أخيرًا ( صاحب ملك ) ، وأما رأفت الأسطورة سيبني شقة بالخرسانة بدلأ من غرفتين كان والده عازمًا على بنائهما فوق بيتهم الطيني وتزوج من فتاة بكر بدلا من تلك المطلقة التي كانوا يفكرون في تزويجها له .
أشعلت الأفكار همتهم ، فأسرعوا غير عائبين بأشعة القمر الواهنة التي تحاصرهم ، وعندما وصلوا تسارعت أنفاسهم وزادت دقات قلوبهم إذ وجدوا أن معالم المكان قد تغيرت قليلًا ، وبعد أن أضاء أحدهم مصباح هاتفه المحمول زادت رعشتهم عندما وجدوا التلة قلبت رأسًا على عقب ، وعلى الأرض كانت هناك آثار أقدام وعجلات سيارة نقل كادت أن تمحيها رياح الصحراء ، وعندما دققوا النظر داخل الحفرة شاهدوا حوائط المقبرة مهدبة ، ولم يعد فيها سوى تابوت حجري فارغ ، أخذوا يهزون بكلام مرتعش وغير مفهوم ، وهم يدورون حول المكان على أضواء هواتفهم . لم يكونوا في حاجة لمن يخبرهم من الذي فعلها ، فأخذ رأفت الأسطورة يصفق بشكل هستيري ويقول:
ــ عملها ابن ال..........
وأتبعها بسلسلة من الشتائم تتجه كلها صوب الحاج راشد ، وأما سعد أبو رحمة قد أمسك رأسه وأخذ يكرر :
ــ لاحول ولا قوة إلاَّ بالله ، هو جرى إيه يا ولاد ، هو معادش أمان في الدنيا .
وعادل المنياوي بدوره أخذ يضحك ويطلق السباب ويقول :
ــ ما أخدناش غير السيخ يا أولاد ............
وبعد وصلة من الشتائم والدعوات على الحاج راشد جلسوا لالتقاط أنفاسهم ، بعدها تنهز أسعد أبو رحمة في خيبة أمل وقال لهما وكأنه تنبه لأمر مهم :
ــ يلا دلوقت ــ إحنا هنفضل هنا لغاية النور ما يطلع ، ونلبس حاجة معملنهاش ! يبقى ملبنا غير الكلام والفضايح .
ــ أكد عادل المنياوي على كلامه :
ــ نروح دلوقت ، وبعدين نشوف هنعمل إيه .
وكأن عقارب الصحراء قد لدغتهم فقاموا مسرعين يجملون الفؤوس والمقاطف على أكتافهم . امتنعوا شتائمهم انتظارًا لمسقها في وجه الحاج راشد ، ضغطوا بأيديهم على السيخ الحديدي ، تحاملوا على أنفسهم و أسرعوا نحو القرية ، شعروا أن كل ما في الصحراء يسخر من خيبتهم ، بينما ضوء الفجر أخذ يزحف نحوهم ليكشف ما عجز عنه القمر زادت خطواتهم اتساعًا مخلفين ورائهم أحلامًا محطمة تفترش أرضية التابوت .