مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

المبدعون

إنكسار الواقعية في رواية من ثقوب الليل ينحدرون لرجاء عبد الحكيم الفولى

2024-10-01 02:55:10 - 
إنكسار الواقعية في رواية من ثقوب الليل ينحدرون لرجاء عبد الحكيم الفولى
محمد حامد السلامونى

رؤية نقدية للناقيد  محمد حامد السلامونى
تحليل شكلى
الإيهام والإستعارة :
الإيهام هو "الإيهام بالواقع"...
هذا و"الإيهام" ]خطأ فى الإدراك يؤدى إلى اعتبار الظاهر حقيقة واقعة[ ،
وهو ]"الإيحاء" بالحقيقى من خلا ل محاكاة الواقع[... هذا و]الإيهام هو أحد
مقومات العمل الفنى والأدبى القائم على تصوير ما هو متخَيَّل، أى أنه عملية
متعلقة بتصوير الواقع الذى يبثه العمل، وتشترط تعَرُّف المتلقى على ما يراه
من خلال المُطابقة بين مرجع العمل الفنى ومرجعه هو كمتلقى مما يسمح له
بالتَّمَثُّل.[... ]يرتبط الإيهام بالمحاكاة بعلاقة السبب بالنتيجة... ولدى أرسطو تتأسس تلك العلاقة على مُشابهة الحقيقة على مقتضى الإحتمال والضرورة "وهو ما يؤدى إلى الإيهام" من خلال ترتيب الحكاية وبُنيتها... [. ) 1 . )
كم هو ملتبس تعريف الإيهام... مكمن المشكلة لدى المنظرين تعود إلى اختلافهم فى تعريف الواقع الذى يوهمنا به المسرح، لاسيما أن المسرح اليونانى القديم- الذى تحدث عنه أرسطو- كان يتمحور حول عالم الأساطير، كما أن هناك تداخلا بين "الواقع والحقيقة" فى كلمات أرسطو نفسه . فى دراسة سابقة، عمدت إلى تأويل "الواقع- الحقيقة" عند أرسطو بأنه "منطق الواقع"؛ نظرا للربط الذى ذهب إليه بين "الإيهام" و"ترتيب الحكاية وبنيتها"، وقوله "على مقتضى الإحتمال والضرورة"، فإنما يضعنا أمام "مبدأ العِلَّة أو السببية" .
هنا أريد أن أتحدث بتفصيل أكثر عن ذلك التأويل...
الإستعارة؛ بماهى التأليف الإيجابى بين الطرفين المتضادين، المتنافرين ،
المتباعدين، إنما تسعى لإبراز وجه الشبه الخفى بينهما؛ أى "الذى يتكرر
فيهما"؛ وهو المعنى نفسه الذى تحمله الإستعارة ...
يمكن القول إن الإستعارة تتأس س على المبدأ القائل بأن "الشىء يُعرف
بشبيهه". لكن هذا المبدأ يحيلنا- قسرا- إلى المبدأ الآخر الذى ينص على أن
"الشئ يُعرف بنقيضه" .
لتبيان العلاقة بين هذين المبدأين ، دعونا نتساءل عما يعنيه القول بوجود
إستعارة ؟ .
القول بوجود إستعارة يعنى القول بوجود "واقع حرفى- خام، غُفل، فعلى ،
حقيقى؛ هو واقع فى ذاته"، تمثل الإستعارة إنحرافا عنه، إذ تجمع بين أطرافه
المتباعدة، فى وحدة ما، عبر رصد ما يتكرر أو يتشابه أو يتطابق، على نحو
ما بين تلك الأطراف .
يقول "عبد العزيز بومسهولى": البلاغة ]لا تنفتح على الإستعارة إلَّا بوصفه ا
دليلا على التشابه لا الإختلاف، وليس التشبيه فى البلاغة إلَّا قياسا للفرع
على الأصل...[، ) 2 ( . ويقول "دولوز": ]وما وجود الثنائى الظاهر: المثال
والنسخة، إلَّا من أجل هاته الغاية، وهى ضمان التمييز والتمايز الكامن بين
نوع النسخ، وتوفير معيار عينى. ذلك أن الأيقونات إن كانت نسخا جية قائمة
على أساس متين، فلأنها تتمتع بالتشابه. لكن التشابه لا ينبغى أن يُفهَم
كعلاقة خارجية: إنه لا ينتقل من شىء إلى شىء آخر، بقدر ما ينتقل من
شىء إلى مثال، مادام المثال هو الذى يشمل العلائق والن سَب المكونة للماهية
الباطنية.[، ويقول أيضا: ]إن التشابه بماهو باطنى وروحى فهو معيار
الإدعاء: إن النسخة "الأيقونية" لا تشابه شيئا حق الشَّبه إلَّا بمقدار ما تُشبِه
مثال الشىء. لا يوافق صاحب الإدعاء الموضوع إلَّا بقدر ما يُقَد على المثال ،
وهو لا يستحق الصفة إلَّا بمقدار مايتأسس على الماهية.[، و]الخلاصة ، فإن
تطابق المثال وهويته العليا هو الذى يؤسس الإدعاء الجيد للنسخ "الأيقونية"
ويدعم زعمها، ويؤسسها على تشابه باطنى[، ) 3 . )
هذا و"الإستعارة" فرع من "التشبيه"، وهو ما يعنى أنها تتأسس على وجود
"نموذج باطنى- مثال- جامع بين طرفيها" .
هذا "النموذج الباطنى- المثال" الخفى، هو الذى يتخذ منه المتفرج المسرحى
مرجعية له فى قياس الإستعارة، وهو ما يمسِك من خلاله بالمعنى .
ما الذى يمكن لنا أن نستنبطه مما سبق؟...
صناعة الإيهام فى المسرح ترتكز على "النموذج الباطنى الذى هو الحقيقة
الواقعية المشتركة بين المتفرجين" ، وبذا ف "النموذج الباطنى" هو ما يجلبه
المسرح إلى الحضور للإمساك بالمعنى الغائب .
وما يمكن أن نخلص إليه هو أن العرض المسرحى ككل، وبما هو استعارة
كبرى، ينطوى على نموذج باطنى "مُضمَر"، هو مجموع ما نعده "الحقيقة
الواقعية"، وهو ما يمكن لنا من خلاله القبض على المعنى .
ما سبق لا يختص به المسرح فقط، بل يمتد ليشمل الفنون والآداب جميعا ،
وهو عماد عملية "التَّمثُل" .
الشكل والإستعارة:
الشكل هو "مجموع التقنيات الوارد ة فى العمل الأدبى"...
لو اتخذنا من "الشكل" موضوعا للتأمل أكثر، سنجد أنه "النظام الكلى"؛ إذ
تنتظم فى إطاره جميع العناصر الواردة فى العمل الأدبى.
هذا وما من "دلالة" خاصة بشىء ما، أيا كان هذا الشىء، يمكن الإمساك بها
سوى بالعودة إلى النظام الكلى، المرجعى، الحاكم لعلاقات هذا الشىء .
وهو ما يعنى أن "الشكل الأدبى- كنظام كلى" هو الذى يمنحنا إمكانية
الإمساك ب "الدلالة- الإيحائية" خاصة؛ إنه مكان إقامة الدلالة الكلية للعمل .
أ مأ "الحكاية" فهى موطن "المعنى المباشر"، أو "الخطاب"- وفق العلم
السَّرد أو السرديات؛ علما بأن هذا المنحى تقليد نقدى يرتد إلى أرسطو، كما
يمكن أن نتَبَيَّن من حديثه عن "ترتيب الحكاية وبِنيَتِها" .
الشكل، كنظام كلى، هو النَّسق العام القائم بالربط بين جميع العناصر المكوِنة
للعمل الأدبى، لذا فالشكل استعارة كلية، كبرى... هذا وما من شكل لا ينطوى
على "نموذج باطنى- مثال" .
وفقا للتعريفات السابقة، فوظيفة النقد تتمحور حول تحليل "الشكل"، إمساك ا
بالدلالة الإيحائية، وليس بالمعنى المباشر .
أما هذه الدراسة، فرؤية نقدية "شكلية" تجريبية، لرواية "من ثقوب الليل
ينحدرون"، للروائية "رجاء عبد الحكيم الفولى"...
الواقعية والأدب :
إعتاد التصنيف المذهبى القديم، الشائع، للأدب، غالبا، على الإستناد إلى
الموضوع الذى يتناوله النص؛ واقعى، نفسى، تاريخى، فنتازى، سياسى ،
إجتماعى... إلخ، أمَّا التصنيف البلاغى فيصَنف الأدب إلى واقعى ورومانسى ،
ومن ناحيتى، من منظور فلسفة اللغة، يتوَزَّع الأدب ما بين الواقعية وما
يتجاوز الواقعية...
"الواقعية" تعمل بدأب على إنتاج صورة أيقونية "شبيهة بالواقع"؛ من خلا ل
اللغة التمثيلية "الإستعمالية- السائدة"؛ فمن خلالها يحضر الواقع- كما
نعرفه- فى الذِهن. بينما "ما يتجاوز الواقعية" ينحرف باللغة إلى الرموز
والمجازات والإستعارات...
وما يمكن قوله- بإيجاز- هو أن الواقعية تسعى للإمساك ب "صورة الشىء"،
أمَّا ما يتجاوزها فيتمحور حول "دلالة الشىء"...
الحياة فى الرواية :
الحياة داخل الرواية مجرد ظلال لغوية تبحث عما تتجَسَّد به من خلال القارئ ؛
فعبر عملية "التَّمَثُّل" التى يتماهى بها بالَّنص الروائى، يقوم بإسقاط تجربته
الذاتية الواقعية على العالم الروائى، مستكشفا عالمه هو نفسه...
وتلك هى الحياة الحقيقية التى ينطوى عليها النَّص الروائى؛ أى أن الحياة فى
الرواية نِتاج "بينى". وهو ما يعنى أن العالم الروائى، هو نفسه، لا يزيد عن
ظلال أشياء مادية غير محدَّدة المعالِم، مترَسبة فى قاع اللغة، القارئ هو
الذى يمنحها ما تتعَيَّن به .
ما أذهبُ إليه هنا، يقول بأن النَّص يتكون من توزيعات لغوية دلالية، لكن هذا
لا يعنى التلاشى التام للأشياء التى تدل عليها اللغة، نظرا لإستحالة الإمساك
بالدلالة بمنأى عن الأشياء الدالة عليها...
الإيهام والعلامات الواقعية:
يذهب "دولوز" إلى أن "العلامات الأيقونية- الحِسيَّة أو الواقعية"؛ وهى جزء
لا يتجزَّأ من النسق العلاماتى الكلى للنص، وعلى الرغم من ضرورتها
واحتلالها حيزا من النص، نظرا لأنها هى التى تجعلنا نُمسِك بالمعنى، إلَّا أنها
علامات أحادية الدلالة ومن ثم مُعتِمة .
بكلمة واحدة، النص الرَّدئ جماليا ، هو النص المزدحم بالعلامات الأيقونية ،
أما النص الإبداعى الحقيقى فهو الذى يقفز منها إلى الأنواع الأخرى من
العلامات...
ما الذى يمكن أن يعنيه هذا ؟...
]أ[ أشار أرسطو- فى الإقتباس السابق- إلى أن ]مُشابَهة الحقيقة على
مقتضى الإحتمال والضرورة "هو ما يؤدى إلى الإيهام" من خلال ترتيب
الحكاية وبُنيتها...[ .
وأشرت إلى أن أرسطو كان يتحدث عن المسرح اليونانى الذى يتخذ مادته من
الأساطير، ومع ذلك فالحكايات الأسطورية، على الرغم من اختلافها عن
الحكايات الواقعية، إلَّا أنها لا تنأى بنفسها تماما عنها، وهو ما يعنى أن هناك
"تشابه" بينهما، كما أن الحكاية أيا كان نوعها، تخضع لترتيب وبِنيَة ،
يشبهان فى منطقهما السَّبَبى منطق الواقع الخاص ب "الإحتمال والضرورة"-
وهذا هو مقصده ب "مُشابَهة الحقيقة" .
أعنى مما سبق أن ذلك التشابه هو نفسه ما يؤدى إلى "الإيهام بالواقع" .
]ب[ الإيهام بالواقع من خلال الترتيب والبِنيَة المتعلقين بالحكاية ، وفقا
لأرسطو، تم تجاوزهما منذ زمن بعيد، بل ولم يعد النقد الحديث يعتد بالمنطق
الحكائى المنبنى على "الإحتمال والضرورة" كشرط للإيهام بالواقع، ذلك أن
مفهوم "الواقع"- كما نعرفه اليوم- لم يكن يخطر لأرسطو على بال، وبدلا منه
كان يتحدث عن "الحقيقة"، بما هى "الماهية- الكامنة فى باطن
الموجودات"، هكذا تِبعا لمنطِقه الصورى أو الشكلى، المجرَّد...
ومع ظهور المذهب الواقعى، فى الأدب الحديث، فى أعقاب ظهور مقولة
"الواقع"- على يد ليسنج، كما يقال- واشتغال هيجل عليها، وانتهائه إلى أن
"ماهو عقلانى هو واقعى وما هو واقعى هو عقلانى"، تِبعا لمنطقه
الدياليكتيكى، "وأيا ما كان مقصد هيجل نفسه، فعبارته تلك تحتمل التفسير
الذى أُشيع عنها"، وبمقتضاها صار الواقع هو الحقيقة التى ينتهى إليها
الوعى، هكذا تِبعا للوغوس "الذى يطابق بين العقل واللغة أو المنطق
والنحو، والعالم"، وهو ما تؤسس عليه الميتافيزيقا عالمها بأكمله .
الواقع لدى هيجل هو كل ما يقع خارجنا، ويتكون من شبكة هائلة من
التناقضات، لكن تلك التناقضات تنتظم "دياليكتيكيا" فى إطار منطق محدَّد
بمقتضاه يتَّحِد الطرفان المتناقضان، ومن المُركَّب الثالث يولد التناقض
الجديد، وهكذا...
وعلى مرجعية ما انتهى إليه عصر التنوير، ثم هيجل، وظهور وتطور العلوم
الإجتماعية والإنسانية، انتهى الماركسيون إلى أن "الواقعية هى مذهب
الحقيقة التاريخية الموضوعية التى يتمخَّض عنها الوعى"...
العلاقة بين الوعى والواقع؛ مع أسبقية الوعى، سواء أكان طبقيا أم لا ،
وتحويل الوعى "بما هو نظام من المقولات" إلى فعل أو ممارسة، ينتهى ب
"تمثيل" الواقع نفسه لتلك المقولات، وهو ما يُسَمَّى بالمطابقة الحتمية
بينهما...
ذلك هو الأفق الفلسفى العام الذى شيَّدت عليه التيارات الواقعية عالمها .
ما أريد أن أخلص إليه مما سبق، هو أن مفهوم الواقع- فى الأدب الحديث-
تغير تماما عما كان يعنيه أرسطو، ليشمل مجموع العلاقات الإجتماعية
والإقتصادية والسياسية وغيرها... التى نحيا فى إطارها . وبذا، لم يعد مفهوم
"الإيهام بالواقع" مقتصِرا على "منطق الحكاية وترتيبها وبنيتها" .
هذا وتعد اللغة التمثيلية، التواصُلية، الإستعمالية السائدة، التى تنوب عن
الأشياء فى الحضور ذهنيا، إحدى التجليات الحضورية للواقع، بل أنها شارة
حضور الواقع، وبدونها تتلاشى الواقعية .
النظرية والمنهج :
تتمحور الرواية عامة حول الحكاية، وتتكون من "المتن الحكائى- الخاص
بالحكاية نفسها، والمبنى الحكائى- المتعلق بالسَّرد"، ومع ذلك فالسَّرد ينفتح
بالرواية على "أشكال تعبيرية" عديدة، بعضها )سردى- حكائى: حكايات
فرعية لا ترتبط بالحكاية الأصلية على نحو مباشر(، وبعضها الآخر )لغوى-
بلاغى: رمزى، إستعارى(، أما بعضها الثالث ف )معيارى: يتعلق بالمعايير
الأخلاقية والفلسفية والتاريخية والإجتماعية والثقافية عامة(...
النوع الروائى- كما انتهى إليه التنظير الروائى إلى الآن- هو كذلك بالفع ل...
الإشكالية هنا تكمن فى اصطلاح "الأشكال التعبيرية":
من الملاحظ أنه يشير إلى المرونة التى يتمتع بها النوع الروائى فى علاقته
بأشكال التعبير المختلفة، أيا كانت، من حيث انفتاحه عليها، واحتوائه لها ،
وهو ما يجعل من النوع الروائى نوعا إسفنجيا، إمتصاصيا تماما، إذ يتغذى
ويتطور ويتجَدَّد على ما عداه...
وعلى الرغم من وجود إشارات نقدية لا حصر لها بخصوص تلك الظاهرة، إلَّا
أن أحدا لم يتناولها، هى نفسها ، من حيث علاقتها ب "بالمتن والمبنى
الخاصين بالنص الحكائى" بما هى نصوص أخرى مٌلحَقة به؛ بقدر ما تتداخل
معه، وتصير جزءا من بنائه الداخلى، إلَّا أنها تتخارج منه أيضا، وتمتلك هى
الأخرى أبنِيَة داخلية خاصة بها، مما يجعلها تتمتع بقدر من الإستقلال
النسبى .
ما علاقة تلك الأبنية الداخلية "العديدة" ببعضها البعض؟.
الرواية مؤسسة معيارية "منهَمَّة بوضع المعايير"، وعبر تاريخها الطويل
نسبيا، لعبت دورا كبيرا فى تأسيس وتبرير وإشهار "المبادئ العقلانية
والتنويرية والعلمانية"، هذا إلى جانب الكشف عن الحِراك التاريخى
والمجتمعى، فضلا عن صناعة الرموز الحداثية الدَّالة... إلخ.
تلك المعايير، هى المؤطرة للنص الحكائى، والصانعة للسياق الدلالى الخاص
به، وهو ما يجعلها تلعب دورا كبير فى تشكيل استجابة القارئ .
مرتكزات منهجية أوَّلية:
 دراسة "نص الحكاية المركزية" الذى تتمحور حوله الرواية ككل...
 دراسة الخطابات المعيارية فى الرواية؛ "مقتبس علمى أو فلسفى أو
تاريخى... إلخ"، إذ تكشف عن وجود مرجعيات هى نصوص أخرى، قد
يتوافق بعضها مع نسق النص الحكائى وقد لا يتوافق...
 دراسة الأشكال التعبيرية: "مقال، قصيدة، قصة قصيرة، شذرة، حدوتة ،
أمثولة... إلخ"، تكشف عن وجود نصوص نوعية أخرى...
 دراسة الرموز والإستعارات اللغوية: تكشف عن وجود نصوص بلاغية
داخلية آخرى تتفاعل مع النص الحكائى المركزى على مستويات عديدة، لا
يعيها الروائى عادة .
تعريف أوَّلى للنوع الروائى:
يتكون النوع الروائى من شبكة علاقات تفاعُلية متبادلة بين مجموعة من
النصوص "الحكائية وغير الحكائية"، تتمحور حول نص حكائى مركزى ،
وبقدر تداخُلها مع بعضها البعض ومعه، إلَّا أنها تتخارج من بعضها البعض
ومنه أيضا، مما يجعل منها نصوصا مستقِلَّة نسبيا عن النص الحكائى.
السؤال النقدى الرئيسى هنا، هو ما علاقة كل تلك النصوص، بما تنطوى
عليه من أبنية داخلية عديدة، ببعضها البعض؟.
على الرغم من تنوعها واختلافها ، إلَّا أنها تضئ بعضها البعض؛ إذ تمثل
مرجعيات بعضها البعض، لاسيما للنص الحكائى المركزى، دون أن ينفى هذا
استقلاليتها النسبية، كما أشرت، وهو ما يعنى أن نسقية الرواية تتضمن
تشَعُّبها أيضا، وكذلك شذريتها، ذل ك أن ما من نسق بإمكانه احتلال الرقعَة
الروائية كاملة، ومن ناحية أخرى، هذا المنحى يكشف لنا عن التعدد الدلالى
الخاص بالعمل الروائى ككل .
وبطبيعة الحال، هذا المنهج ينفتح على مستويات عديدة على التراكم المعرفى
النقدى .
أمَّا عن هذه الدراسة تحديدا، فهى دراسة "شكلية"؛ تسعى للإمساك بالشكل
الحاكم لرواية "من ثقوب الليل ينحدرون"، وسوف تتوقف عند تلك الحدود
"الشكلية" التى عيَّنتها لنفسها؛ ذلك أن العوالم الروائية عامة شديدة الإتساع
والتَّنوُّع والتَّعدُّد والإختلاف، ويستحيل الإمساك بعالم واحد خاص برواية
واحدة فى دراسة واحدة...
الرؤية العامة
الواقعية السحرية
والإنفجار الحكائى
تتكون الرواية من سلاسل متتابِعة ومتوالدة ومتداخلة من الحكايات ، هذا
والنص الغائب وراءها هو "ألف ليلة وليلة"؛ إذ تتخذ منه "نموذجا جماليا،
أو نمطا أعلى" تحاكية وتتفاعل معه بطرق عديدة، كما أن زمن الحكى
المركزى فيها هو "الليل- ليل الحكاية الأبدى"، أضف إلى ما سبق أن الغالبية
العظمى من رواة الحكايات بداخلها "نساء"، إلى جانب المؤلفة نفسها ، وما
يمكن قوله هو أنها تتخذ من "الحكاية والحكى" موضوعا لها ...
فالرواية نفسها تبدو كعُقد من الحكايات، إنها حكاية الحكايات، وبالإمكان
وصفها بكونها انفجارا حكائيا مدوِيا .
تحتشد الرواية بالشخصيات الإستثنائية، الغريبة، التى تحيا الخيال "المرتبط
بالمعتقدات الشعبية" كواقع إجتماعى منفَتِح على السحرى؛ فالأشباح
والعفاريت تتوطَّنها؛ فى نوع من "الإحيائية Animation "، تماما كما
يتوطنون هم أنفسهم إحدى القرى الفقيرة، القاحلة، الواقعة فى سفح الجبل،
فى صعيد مصر، ويعانون "الفقدان- زوج، حبيب... إلخ" .
فى هذه الرواية،"الحكاية" هى الملاذ الوحيد، بل العزاء الوحيد للجميع...
لكنها- الرواية- تكتنز بالأشكال التعبيرية الحكائية؛ قصص قصيرة، حكايات ،
شذرات، أمثولات، ذكريات...إلخ، فى تتابُع سردى غير تقليدى، يعتمد تقنية
"المونتاج"...
هذا وازدواجية اللغة؛ إذ تتراوَح ما بين "فصحى السَّرد- الخاص بالراوى
ضمير الغائب"، و"عامية الحوار- الخاص بالشخصيات"، تشى ب "واقعية"
شخصيات تعتقد بحقيقة ما تحياه، فى عالم أدبى "خيالى" هو فانتازيا فاضحة
وساخرة منها- رغم ما يبديه من تعاطف معها .
الحكاية والزمن والدلالة :
فى الليل، فى العتمة، يستعيدون ما وقع لهم من أحداث فى النهارات البعيدة؛
فالحياة السابقة للفعل، والليل الراهِن للتَّذَكُّر...
ما نلاحظه هنا هو أن "سرد الحكايات- الذكريات" يرتبط بزمن واحد وحيد
هو "الليل"، المسكون بالأشباح والعفاريت وكل ما هو مخيف. هكذا فكل ما
وقع لهم من أحداث وقع فى الماضى. ولما كان الحدث الروائى، هو نفسه
"سلاسل من الحكايات الليلية المُستعادة"، فالقارئ يجد نفسه أمام سؤال: أين
يوجدون الآن، وما الذى يفعلونه؟ .
]... قلبى هناك مع القمر، صوت شهرزاد يأتى دائما من مكان بعيد ليذ كر
الناس أن شهرزاد كانت لها ضرورة مُلِحَّة للحكى حتى لا تموت، بالحكى
تقاوم الموت كشهرزاد تماما، كل نساء تلك البلدة يتسلَّحن بالحكى، الحكى هنا
يوازى الحاجة إلى الطعام، نحكى حكايات يومنا وما حدث لنا، وذكريات الآباء
والأجداد وبطولاتهم، ونُكمِل بالحكايات المتوارثة، المهم ألا نكف عن الحكى؛
حتى لا ينفرد بنا الموت، قالت أم حياة...[، ) 4 )
ومع ذلك، يبدو الأمر كأنما نحن فى حضرة "موتى"؛ عاشوا من قبل،
ويقيمون الآن فيما بعد الحياة؛ ويروون عن زمن ما قبل الزمن الليلى الشَّبحى
.هذا والحكايات نفسها، نظرا لغرابتها، بعد إتمام قراءة الرواية تظل تطارد
القارئ كالأشباح تماما .
فى هذه الرواية لا يوجد "نص حكائى مركزى"، بل نثار من حكايات فقط .
وبذا فالرواية تخلو من "المتن والمبنى الحكائيين" بالمعنى التقليدى .
وبدلا منهما تتكئ على الحبكات الصغيرة المتناثرة، كما أن الشكل الروائى
العام يرتكز على تقنية الكتابة "الشَّذرِيَّة"؛ وهو ما يبدو بوضوح فى توزيع
الأحداث على شذرات منفصلة "مُرَقَّمة"، كل شذرة منها تتناول شخصية
مستقلة، دونما رابط بينها، يتخذ بعضها شكل القصة القصيرة والقصة
القصيرة جدا، والحكاية والنادرة والحدوتة... إلخ .
تلك "الأشكال التعبيرية" التى تحتشد بها الرواية، نصوص أخرى، كل نص
منها يبدو مستقلا بذاته، وينطوى على بناء داخلى خاصا به، هذا بنفس القدر
الذى يصُبَّ به فى المجرى السَّردى الروائى العام، ليصير جزءا لا يتجزَّأ منه
؛ وهو ما يعنى أننا هنا أمام بناء روائى كلى ينطوى على أجزاء، لكل جزء
منها بنائه الداخلى .
"الكتابة الشَّذرِيَّة"، فى هذه الرواية، توحى بأننا أمام شخصيات هامشية ،
مغمورة بشدة، منذورة للتلاشى، ومع ذلك، فكل منها ينطوى على أسطورة،
أو حكاية خرافية "تمتح من التراث الحكائى الشفاهى بقوة" تنفتح به على
الكون برمته؛ أو كما يذهب "فرانك أوكونور"، الشخصيات المغمورة
"الحالمة والمهزومة"- أو الإنسان الصغير- تخفى فضاء أكثر غموضا، وهو
ما يطلق عليه "الوعى المكثف لكون الإنسان وحيدا" .
تكمن المفارقة الجمالية "المتعلقة بالشكل الروائى" فى هذه الرواية، فى
خلوِها من "شخصية رئيسية" تلعب دور المركز المستقطِب لجميع العناصر
الحكائية والسَّردية، كعادة السَّرد التراثى الشعبى- الشفاهى- الملحمى"، وبقدر
اقترابها "أى الرواية" من البناء السَّردى الخاص ب "ألف ليلة وليلة"- إذ
تتكون من حكايات داخلية عديدة، منفصلة، تجتمع فى الحكاية الإطارية
الخاصة ب "الراوى- شهرزاد" وب "المروى عليه- شهريار"، إلَّا أنها لا
توجد بها حكاية إطارية .
وهو ما يبدو معه أننا إزاء عالم روائى مبعثر ومتفَسخ، غير أن التبعثر
والتَّفَسُّخ فى هذه الرواية يصُب فى التيار التَّحتى المتوارى وراء كم هائل من
الشخصيات والأحداث، يتعَلَّق ب "الفقدان والخسران" فى تكاثفهما المتزايد
من خلال التتابُع السَّردى .
نحن هنا أمام "شعور" يتكاثف فى نفس الشخصيات والمتلقى معا ؛ هذا
و"الشعور هو الإنفعال مضافا إليه الكلمات"، وهو ما يعنى أن المتلقى فى
تَمَثُّله للعالم الروائى يروى هو أيضا مع الشخصيات...
ما أريد أن أنتهى إليه مما سبق هو التالى:
فى تلك الرواية يحضِر الكونى فى نسق علاماتى يتحدث عن نفسه بلغته
الخاصة داخل اللغة السَّردية العامة. وبتعبير آخر، تنطوى الرواية على معرفة
جمالية مرتكزة على إنتاج "تمثيلات- تتعلق بالعمق الكونى لتجربة وجودنا
فى العالم"؛ نظرا لكونها تترَكَّب من تفاعل ركام هائل من نصوص هى تراثنا
التخييلى الشفاهى، مما يجعل منها مستودعا للأنظمة الرمزية؛ هكذا، فالكون
يبدو محتشِدا، يتكلم فى اللغة السردية بلغته هو...
وإن جاز لى أن أضيف، أقول:
الأدب الأن لا يزيد عن هوامش على "الذَّاكِرة المُتَذَكَّرَة"، أما "الذَّاكِرة
المنسِيَّة"؛ التى هى ذاكِرة الأنبياء والعَرَّفين والقديسين والصوفيين
والمجانين، والهائمين على وجوههم والعشاق المُدَلَّهين والمُلهَمين ،
والممسوسين... فهى موضوع الأدب الحقيقى .
الأدب هو الخطاب الذى لا يقول نفسه أبدا إلا بلغته هو المُرَمَّزة .
وبذا فالتداخل بين الواقع والخيال ، يدفع بمنظور يرى الواقع فى الخيال
والخيال فى الواقع- هذا وقد سبق لنيتشه الإشارة إلى أن "الوهم نصف
الحقيقة"- وهو ما يعنى أن ما من حقيقة خالصة وما من وَهم خالص ؛
النظرية هنا تقفز فوق فكرة "النقاء- الجمالى- النوعى الحداثى"، لتعانق
الإنفتاح والتَّعَدُّد المابعد حداثى.
فى تلك الرواية، يعيد الإنسان تَسَلُّم الرمز، ليمنحه الدلالة الخاصة به، دون أن
ينتزعِها من يد القَدَر، بل فى تناغم وانسجام معه، والمفارقة تكمن فى إن هذا
هو نفسه ما يصنع المأسوى فى تلك الرواية .
إشكالية النص الحكائى المركزى :
"الفقدان أو الخسران الفادح،الموجِع" الذى يصم عالم هذه الرواية، ويعانى
منه الجميع، يتحول جماليا إلى "شكل"، أعنى أنه يتحول إلى بناء سردى...
فما تفتقر إليه هذه الرواية، هو وجود "نص حكائى مركزى"- بالمعنى الذى
اعتدنا عليه فى الأبنية الروائية عامة- تٌنسَج من حوله الأحداث الفرعية ،
وتستمد منه دلالتها، ومع ذلك، فوضعية "حكاية النوبى" بداخل الرواية ،
وتتابُعها وتوَزُّعها على مدار الرواية ككل، تشى بمحاولة المؤلفة الدفع بها
لأن تلعب دور النص الحكائى المركزى...
"حكاية النوبى" تحتل حيزا كبيرا من السَّرد الروائى، وتدخل فى علاقات
"دلالية" وليست "درامية" مع الحكايات المتعلِقة بالشخصيات الأخرى ، فيما
عدا "الهانم" فى الأساس، ثم "حياة" على نحو غير مباشر- توحى به تقنية
المونتاج فى انتقالها الدائم من "النوبى" إلى "حياة"، ومن "حياة" إلى
"النوبى" فى مساحة لا بأس بها من التتابُع السَّردى...
الدلالة هن ا يمكن الإمساك بها من خلال الإحتشاد السَّردى الساعى لبلورة
"الشعور بالوحدة" ؛ فكل شخصية من شخصيات الرواية تبدو "وحيدة" ، هذا
على الرغم من تقاس مهم جميعا تلك الوحدة...
"غياب" الحدث الدرامى الكبير والمحورى؛ الذى يشتركون جميعا فى
صياغته، أى الذى تتوزَّع فيه الأدوار والوظائف على الشخصيات، كما اعتدنا
أن نرى فى الروايات، يعنى أننا فى هذه الرواية أمام حدث روائى هو "تيار
تحتى" يتنامى ويتكاثف عبر التتابع السَّردى، هذا التيار التحتى يتعلق ب
"الدلالة" فى ارتباطها بالشعور بالوحدة والفقدان... بما هو "الحكاية
الأصلية" التى انحدرت منها الحكايات كلها- وسبق أن أشرت إلى أن
"الحكاية" هى الموضوع الذى تتناوله هذه الرواية .
المنظور السَّردى :
الرواية تحاكى "ألف ليلة وليلة"؛ إذ تُروَى على هيأة حكايات قصيرة فى ليال
متتابِعة...
فى البداية، وفى مناطق متناثرة من الرواية، تستند الرواية إلى "الراوى
العليم- ضمير الغائب"، لكن كمية هائلة من السَّرد يعهد بها الراوى العليم إلى
"أم حياة"، فى نوع من "الرؤية مع"؛ أى أن الراوى العليم يرى ما تراه "أم
حياة"... بينما تسألها ابنتها "حياة" عن "النوبى" وما وقع له مع "مَلَك
هانم"؟...
هكذا لتحل "حياة" محل "شهريار"، فيما تروى "أم حياة- متمثلة
شهرزاد"... هذا ويشير الراوى العليم إلى هذا مباشرة، فى أكثر من موضِع
من الرواية .
الفرق بين "أم حياة" و "شهرزاد" يكمن فى أن الأخيرة كانت تروى على
شهريار حكايات خيالية، بينما الأولى شاهِدَة على ما حدث؛ إذ تعمل خادمة
لدى "الهانم"، وقد لعبت دورا كبيرا فى صياغة العلاقة الزوجية بينها وبين
"النوبى"...
وكما أشرت من قبل، فالرواية ترى الخيال فى الواقع والواقع فى الخيال، أو
أنه الواقع عندما يتخلى عن واقعيته ويصير خيالا؛ وهو ما قصدت إليه من
"إنكسار الواقع"، فى عنوان الدراسة... ولعل هذا المنحى فى الرواية يَرِد
كتعليق من المؤلفة على الخيال الشهرزادى، فحواه أن المسافة الفاصِلة
بينهما، فى الزمن القديم، لم تعد الآن كما كانت من قبل؛ فالواقع نفسه كثيرا
ما يفوق الخيال... وسوف نرى عند الحديث عن "النصوص الرمزية"، كيف
أن "الليل"- فى القُرى قبل دخول الكهرباء- كان عالما آخر، ينفتح
بالشخصيات على لاوعيها "الماورائى" الممتد عبر التاريخ، وهو ما أحدَثَت
الكهرباء قطيعة جذرية معه .
هذا، وما يسترعى الإنتباه بقوة، هو أن "حكاية النوبى" هى الحكاية الوحيدة
التى تمت صياغتها وفقا للمنظور السَّردى الخاص ب "ضمير المتكلم" ، بينما
جميع الشخصيات الأخرى تمت صياغتها ب "ضمير الغائب" .
تلك الصياغة الشكلية علامة دالة على أن انفراد "النوبى"- الغريب عن
القرية "إذ وفد إليها مهاجرا من قريته النوبية التى أغرقها الطوفان ، وفقد
تاريخه وتراثه وأمه وأبيه وجدته"- يعود إلى أنه الشخصية الرمزية "الدَّالة"
عليهم جميعا... وهو ما يعنى أنه يتحدث بنفسه عن نفسه- دون أن ينوب عنه
الراوى ضمير الغائب بالحديث- بما هو ضمير المتكلم فى حضوره الغائب ،
وبتعبير آخر، إنه يحضِر كغياب؛ ذل ك الغياب الذى هو سِمَتُهم جميعا...
هو إذن يمثل "غيابهم جميعا، حين نمنحه صوتا ليتكلم" .
هذا، وما يمكن قوله، هو أن المنظور السَّردى فى الرواية يتبَع نهجا توالُدِيا،
إذ تتوالد المناظير السَّردية من بعضها البعض؛ فمن الروى العليم يولد
المنظور السَّردى الخاص ب "أم حياة"، وفى العودة لمنظور الراوى العليم
يولد منظور "النوبى"، وهكذا على مدار الرواية...
*
قبل أن أتحدث عن "النصوص الرمزية" فى هذه الرواية، سأشير فى لمحة
عابرة إلى "الأشكال التعبيرية أو النصوص النوعية" التى أرى بأن النوع
الروائى يتكون منها؛ ك "الأقصوصة بأنواعها المختلفة، والحدوته والأمثولة
والشَّذرة... إلخ. وفى الحقيقة، تلك "النصوص النوعية" بحاجة إلى دراسة
مستقلة ومستفيضة، ذلك أنها لا تقف عند حدود تعيين تلك الأنواع، بل
تتجاوزها- كما آمل- إلى الكيفية التى تتشكَّل بها الرواية ككل...
الأشكال التعبيرية أو النصوص النوعية :
هذه الرواية، وبحكم تمحورها حول "الحكاية"، مكتنِزَة بأشكال التعبير
السَّردى، أو بالقوالب السَّردية، إلى جانب "العديد- المراثى الشعبية"... وما
يمكن قوله هو أن المؤلَّفة عمدت إلى تكوين روايتها من سلاسل نوعية
سردية، قصيرة الحجم، لاسيما "الأقصوصة- أو القصة القصيرة"، ليس فقط
لأنها موفَدَة من عالم القصة القصيرة؛ "إذ صدرت لها عِدَّة مجموعات
أقصوصية"، بل لأن عالم الرواية التى نحن بصَدَدِها، يتمحور حول
الشخصيات الهامشية أو المغمورة؛ تلك التى يتكون عالمها من لحظات
قصيرة مٌلتَمِعة "ومضات" يتجلى فيها الكونى الغامض المطمور بداخلها على
مرجعية أسطورية ما، غائبة أو حاضرة... أى أنها دوما فى حالة "تناص-
تفاعل نَصى"، مع نصوص أسطورية مرجعية...
وهو ما جعل تلك الرواية تتكون من "لحظات- أقصوصية" منفصلة ع ن
بعضها البعض، مفعَمة بالعنصر الأبيفانى "الإشراقى أو التنويرى" ؛ ومن
اجتماعها وتَرَاكُبها معا فى خِضَم التيار التحتى المتدَفق، تتخَلَّق الكثافة
السَّردية الروائية كترَسُّبات متراكمة ناتِجَة عن التتابع السَّردى هو نفسه.
أشرت من قبل، إلى أن تلك الرواية، ككل، هى حكاية الحكايات كلها أو
"حاوية الحكايات القصيرة بتنوُّعها الهائل"، وأضيف، بأن تلك الأقاصيص
المتناثرة تجتمع مكونة الرؤية الروائية الكلية.
أى أن الرؤية الروائية تنبثق من النقطة التى تتقاطع فيها تلك اللحظات معا ،
فنرى الترابط غير المرئى بين شخصيات وحيدة تتخَبط فى الليل الطبيعى
بأبعاده المجازية التى تمتد لتطال مصائرها المظلمة... وهو ما تكشف عنه
النصوص الرمزية البليغة التى تحتشد بها الرواية- فعلى سبيل المثال- تبذل
الشخصيات ما بوسعِها لإضاءة حياتها وتبديل مصائرها؛ ف "النوبى" يحلم
بالزواج من "الهانم"- فى محاولة منه لتحويل نبوءة أمه إلى حقيقة واقعية ،
وما أن يتزوَّج الهانم حتى تحوِله- كما حوَّلت رجال كثيرين من قبل- إلى
حيوان، للإستعمال عند الحاجة الجنسية فقط ، وتحكُم عليه بالإقامة فى حجرة
الماكينة، المظلمة، وما أن تشتد معاناته وعذاباته، حتى يُشعِل النار فى المكان
برمته، فيحترق، ولا يتبقى منه شىء...
هكذا، فالضوء الذى يسعون إليه طوال معاناتهم من الليل بمجازيته المشار
إليها، سرعان ما يخبو بهم هم أنفسهم، ليتحولون إلى حكايات ليلية على
ألسِنة الآخرين؛ أى إلى "لغة"، وهو ما سأتحدث عنه وشيكا.
ترتبط الحكايات، بأنواعها العديدة، وبما هى نصوص نوعية، بالليل، بما هو
الزمن المظلم الحاوى لوجودهم، والصانع لمصائرهم المأساوية...
هكذا، جميع أنواع النصوص تتفاعل مع بعضها، وتُمَثل مرجعية لبعضها
البعض، فيما يمكن تسمِيَته ب "التعاضُد النَّصى الروائى" .
النصوص الرمزية واللغة :
هى النصوص التى تجود بها اللغة البلاغية "الكنائية والإستعارية والمجازية"
خاصة، ونظرا لغزارتها، واحتشاد الرواية بها- إذ لا تقف عند حدود الحكاية
كأحدث وأفعال- سأتوقف فقط أمام "اللغة" من زاوية معينة، وعند بعض
"الرموز" البارِزة .
 القوة السحرية للغة :
 يقول النوبى: ]فى هذا المكان فى القرية تستطيع أن ترسم مصائر الناس،
مجرد كلمة تتلَفَّظ بها على أحد، مازحا، تلتصق به وتتبَعه حتى فى عالم
الموتى. لذلك لم يفكر أحد فى الزَّواج من حياة رغم جمالها وتميُّزها كأنثى
عن بقية نساء البلدة، بعد أن فضحناها أنا وأصحابى...[. ) 5 . )
وكذلك كلمة "هبابة"، إذ تحوَّلت إلى إسم شخص، أسمَته به أ مه منعا
للحسد...
"الكنا ية" هنا تعود إلى "القوة السحرية للغة"، تلك المتبقية من العصور
البدائية التى كانت تعتقد بمطابقة اللغة للأشياء، أو الإسم للمُسَمَّى، وهو ماقَر
فى اعتقادهم بإمكانية الهيمنة على الأشياء بقوة اللغة، ومن هنا كان السحر.
 الماضى "الذكريات"، يتحول إلى حكايات، والحكايات لغة، يحيون بها
وفيها فى الليل، مأخوذ ين بسِحرِها؛ فتصير تمديدا لعالم الأشباح والعفاريت...
نماذج من النصوص الرمزية :
يقول فوكو- فى "الكلمات والأشياء"-: ]التنافر يحافظ على الأشياء فى
عزلتها ويمنع التمثُّل، كما يحبس كل نوع فى تمايزه المتصَلِ ب ونزوعه فى
ماهو فيه...[ ) 6 (، وفى المقابل، يقول فوكو أيضا: ]البحث عن المعنى هو
إيضاح ما يتشابه.[ ) 7 (، هذا والتشابه، كما يرى فوكو: ]يفرض تجاورات
تؤمن بدورها تشابهات[ ، ويضيف: إن ]... تشابها يظهر فى مفصل
الأشياء... وهو مزدوج ما أن تحاو ل فصله: تشابه مكان، وموقع وضعت فيه
الطبيعة الشيئين، وبالتالى تشابه خواص. لأن فى هذا الحاوى الطبيع ى الذى
هو العالم، ليس التجاور علاقة خارجية بين الأشياء، وإنما علاقة قرابة
مبهمة على الأقل. ثم أنه فى هذا الإتصال تنشأ بالتبادل تشابهات جديدة،
ويفرض نظام مشترك نفسه، فعلى التشابه كسبب أصم للتجاور يتراكب شبه
هو الأثر المرئى للتقارب[. لذا ف ]المكان والتماثل يتشابكان...[، وبذا يصير
العالم هو ]التلاؤم العالمى الكلى للأشياء[ . ثم يقول: ]فبتسلسل التشابه
والمكان، وبقوة... التلاؤم الذى يجاور المتشابه ويماثل المتقاربات، يشكل
العالم سلسلة مع نفسه. وفى كل نقطة اتصال تبدأ وتنتهى حلقة تشبه الحلقة
السابقة وتشبه الحلقة اللاحقة، ومن دورة إلى أخرى تتتابع المتشابهات
تاركة الطرفين "الله، المادة"، مق ربة بينهما بطريقة تجعل إرادة العلى القادر
على كل شئ تنفذ حتى إلى النقاط الأبعد والأكثر ركودا...[ ) 8 . )
هكذا، فكل ما يعتقد به الإنسان هو نتاج آليات تفكير من نوع معين، ألحت به
سياقات معينة .
وفى الرواية، تبدو جميع الشخصيات تنويعات على شخصية نموذجية واحدة
وحيدة، أى أنهم متشابهون مع بعضهم البعض ومع المكان الطبيعى الحاوى
لهم...
 الشمس:
]كانت "حياة" تمشي داخل شعاع الشمس البرتقالي بذلك الإيقاع الهادئ الذي
يبدو رقصا، تنساب حركة جسدها الطري مع دحرجة الكون نحو المساء، وقد
تركت لعينيها حرية الحركة هنا وهناك، وقد شجعها المساء الذي بدا لها يولَد
توا على الأرض هادئا وموجعا، دَفعها لتتذكر نهارا ت أكثر شقاء، مُرة في
حياتها، فوجدت تلك الصباحات تلع ب في قلبها عندما كانت تدفعها الشمس إلى
ملاحقة خطوات الظلال لتختبئ بداخلها، أخذتها ذاكرتها إلى ذلك الصباح
القائظ الذي تناسخ في روحها بأوجاعه صباحات عدة مرة بها، بدأت تَدرأ
الترابَ عنها. أخذت طبقة الظلام تخفت رويدا حتى خرج مِن قلبها ضياء
الفجر اللبني، لمست إطلالته الكائنات فافتتحت حفلة جماعية لاستقباله، صوت
حمار ينهق، وديك يصيح، وخوار بقرة، ودجاجة تطلق صيحا ت متعجلة.
تَسَلَّقت عينا "حياة" السماء تتلصَّص على الشمس، هل باتت وشيكة؟، هل
ستشرق الآن، هنالك غيمات سوداء تحتجزها؟، ربما تكون تلك الغيمات هي
الخيوط السحرية التي تشدها وتبقيها وراء الجبل، كما تحكي لها أمها، لكن
الشمس قوية لا تستسلم لسحر، ستفتت تلك الخيوط وتقهقه معلنة انتصارها
الأبدي، هي تعلم أن تلك الغيمات الهزيلة التي تجرب قدرتها على المغامرة
زحفت للتكاثف أمام وجه الشمس، هكذا في تحد غير مدروس، لن تلبث أن
تفر مبتعدة أمام أشعتها المميتة. يتراقص الصباح وهو يتدحرج إلى الأرض
في عجالة، بينما يتلكأ المساء مهادِنا الشمس، في جنوب مصر تسطع
الشمس مزهوة بأشعتها العفية التي تظل عفية حتى قرب احتضارِها، رغم
أنها لا تقارن بغطرسة الليل ومخاوفه، إلا أن "حياة" تتصرف معها بضجر
ينحو بها إلى حد الكراهية، تُرى ما لون السعادة التي ستطرق قلبها؟ لو
استبقتها الغيوم وحبستها هناك خلف الجبل؟، سينساب اليوم في وجدانها
كشلال هادئ ينقلها لسكينة تفتقدها مع الشمس، دائما تلوح لها الشمس في
صورة الأشياء المفترسة، لم تَتعا ط معها مشاعر الحب كما تفعل مع القمر
الذي يبدو لها هادئا وناع ما وإنسانيا، وتسأل نفسها لِمَ تأخذ الشمس هذا
الموقف العدائي مع الجميع هنا، مع أن علاقتهم بها قديمة جدا؟! عملها كله
ينجَز تحت حراستها الصارمة، الجنوب كله تشتعل فيه الحياة عندما يأتيها
لمَخاض فتنزلق منها أشعتها على الأسطح، وعندما تهرم تلك الأشعة
وتحتضر تتعطل الحياة وتختبئ   خلف الجدارن الطينية، ربما لذلك أقام لها
الفراعنة طقوسَ العبادة، تَرى تصويرها على جدارن المعابد، تُعامَل كإله، هل
يجلد الإله رعاياه بتلك القسوة؟ لا تستطيع أن تُحصِي عدد المرات التي وقعت
ضحية ضربات تلك الشمس، بينما يتناقل الناس حكاياتِها وسقوط ضحاياها
بين الإفاقة والهذيان... [ . ) 9 . )
يبدو هذا النص الذى تستهِل به المؤلفة الرواية، والمقتطع منها، أقصوصة
متكاملة، ذات بناء داخلى خاص بها، وهو نص رمزى تفيض دلالته على
الرواية ككل؛ حتى أنه بالإمكان تحليل جميع عناصرها من خلاله... هو ما
سنراه يتكرر حين نتوقف لاحقا أمام رمز "الصندوق" .
هذا النَّص يضع العقيدة المصرية القديمة فى موضِع سؤال؛ ذلك أن
"الشمس- هى رمز الإله رَع، كبير الآلهة"...
فالشمس، رمز الحياة، حارِقة للحياة "؟!"... ويتمحور سؤال "حياة" حول
تلك القسوة التى خَصَّهم بها الإله؟- هكذا، ف "حياة" تتحدث بلسان حال الحياة
نفسها؛ "أى أن شخصية حياة مجاز مادى، رامز إلى الحياة"، وسؤالها يتعلق
بالطبيعة والموروث العقائدى...
وما يمكن قوله بهذا الصَّدَد، هو أن سؤال "حياة" هذا، الذى تُستَهَل به
الرواية، هو سؤال الأسئلة التى تتمحور حولها الرواية ككل؛ إذ يضعنا منذ
البداية أمام ثنائية "الضوء/ الظُّلمة "، أى "الحياة/ الموت"؛ فكل منهما بداخل
الآخر- ليس بالمعنى الهيجلى الحديث الخاص بوحدة الأضداد، بل بالمعنى
الأرسطى الخاص بالثالث المرفوع أو عدم التناقض؛ أعنى أن "حياة" تتألم
من ذلك التناقض الذى لا حل له، دون أن تفهم أن التناقض هو جوهر
الوجود، ومن هنا يتأتى سؤالها- ومن ثم مأساتها .
وإذا كانت "حياة" تقف عند حدود السؤال- دونما إجابة- ف "النوبى" يبدو
أكثر تناغما وانسجاما مع الطبيعة ، إنه جزء منها ] رجليه تشبهان فروع
الصفصاف[، ] يمكن أنا الليل والليل انا[، ]ربما كنت حتخَلَق سمكه[... وعلى
الرغم من حُسن نواياه تجاه الوجود، إلَّا أنه لم ينج من تناقضات الوجود،
لتنتهى حياته على نحو ما أشرت إليه من قبل...
العلاقة المتناقضة بين "النوبى" و "حياة"، تتجلى بوضوح فى سؤالها الدائم
لأمها عن حكايته . ف "حياة" التى وصمها النوبى وأصحابه بالعار ظلما، مما لطخ سُمعتها وحال بينها وبين الزواج، ومن ثم من استكمال الحياة الطبيعية، تعرِف- من خلال تساؤلاتها عن الطبيعة- أن تلك هى الطبيعة؛ قاسية بما لا يوصف، وتسَلِم مصيرها لهذا القَدَر الكونى. على العكس من "النوبى"، الذى يبدو متَّسِقا مع
الطبيعة تماما، ومع ذلك فالمصير المأسوى- رغم اختلاف نصيب كل منهما
منه- يطالهما معا. وهكذا يمتد التناقض فى رمز الشمس إلى الشخصيات .
يقول باشلار- فى جماليات المكا ن-: ] فى بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف
أنفسنا من خلال الزمن، فى حين أن كل ما نعرفه هو تتابُع تثبيتات فى أماكن
استقرار الكائن الإنسانى الذى يرفض الذوبان، والذى يود حتى فى الماضى ،
حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة أن يمسك بحركة الزمن. إن المكان فى
مقصوراته المغلقة التى لا حصر لها، يحتوى على الزمن مكثفا. هذه هى
وظيفة المكان. [ ) 10 . ) إرتباطاتنا بالأماكن تُنتِج ظلالا ذات طبيعة سيكولوجية، هى المُحَ صلة الأوَّلية لعلاقاتنا بها، ومع ذلك فهى ليست زخارف سطحية، بل علامات دالة على ما تعنيه بالنسبة إلينا. يقول باشلار-: ]علينا، لهذا، أن نف سر الكيفية التى نسكن فيها بيتا- مكاننا ذا الأهمية الحيوية- وأن يتم ذلك فى توافُق مع جدل الحياة...[ ) 11 . )
البيوت :
البيوت فى الروايات كثيرا ما تحمل دلالات متعلِقة بالأوضاع الإجتماعية ،
ونادرا ما تضئ لنا "الإحساس الأنثرو- كونى" بها- بتعبير باشلار. لكننا فى
هذه الرواية نمسِك بهذا الإحساس بقوة، خاصة إذا ما قمنا بالربط بينه وبين
الأماكن المغلقة عامة . تحدثت من قبل عن التلازُم بين البيت والليل فى هذه الرواية، بما هو الملاذ "الحماية" الذى يلجأون إليه بعد غروب الشمس .
يقول باشلار: ]إن حلم اليقظة يتعم ق إلى حد أن منطقة من التاريخ البعيد جدا
تنفتح أمام الحالم بالبيت، منطقة تتجاوز أقدم ذكريات الإنسان[، ويضيف: ]...
أحلام يقظة تضئ ذلك الدمج بين القديم جدا والمُستعاد من الذكريات. هذه
المنطقة التى تنفتح على تاريخ سحيق يرتبط فيه الخيال بالذاكرة، كل منهما
يعمق الآخر.[ ) 12 (، ويضيف: ]البيت هو كوننا الأول[ ) 13 . )
هذا وعلى مدار السَّرد، يواصِل "النوبى" استعادة ذكرياته مع جدته فى
طفولته، بينما تروى الحكايات الأسطورية... تلك الحكايات التى صنعت
مصيره، هو نفسه؛ وبقدر ما صارت جزءا منه صار هو أيضا جزءا منها-
فبعد موته تحوَّل إلى أسطورة . فى الرواية، يرتبط "البيت" بالليل، بالحكاية .
فالبيوت هى الحدود الفاصلة بين الليل بمخاوفه والإنسان بحكاياته وأحلامه-
من هنا كانت البيوت خزانة الزم ن "الماضى والمستقبلى". هذا والحكايات
تبدو أشبه بأحلام اليقظة المتواصِلة؛ إنهم يعيشون الحياة كحكايات درءا
للموت- "النوبى"، فى تحوًّله إلى أسطورة، بعد موته، ظل يحيا فى "الحكاية-
اللغوية"، ومعه الشخصيات الأخرى، هذا والرواية نفسها كحكاية لغوية ،
شاهدة على هذا . التضامن بين الذاكرة والخيال لدى الجميع، لاسيما "النوبى"، يخلق العمق الشعرى للبيت القديم "حيث الجَدَّة "، لكنه الآن بعيدا عن البيت "الوطن" القديم؛ الذى التهمه الطوفان، لذا فما تبقى له هو ذلك العمق الشعرى الشبيه بأحلام اليقظة. وعادة ما يستدعيه حتى فى أحلك المواقف، لأنه هو الذى يوفر له الحماية، فالنوبى يحمل معه- فى ذاكرته- بيته القديم .
هذا و"النوبى" كان يعد نفسه جزءا من الطبيعة- كما أشرت من قبل- فهى
بيته، كونه... ومأساته تنبع من عد م استطاعته العثور على "مصير خارجى"
للإنسان الداخلى، أى أنه لم يستطع العثور على وسائط، ومن ثم مُصالَحَة أو
توافُق، بين الواقع وبين عالمه الأليف، الرمزى، الداخلى. يقول باشلار: ]كل الأماكن المأهولة حقا تحمل جوهر فكرة البيت[ ) 14 . )
الأماكن المغلقة: البيوت، الصناديق ، النعش... إلخ، مأهولة بالأزمنة السَّحيقة
والذكريات والمصائر أيضا .
الصناديق :
]مَسَح الحجرة "حجرة الماكينة" بنظراته، ثمة شيء يتكوم مغطى ببردة
مصنوعة من الصوف، طوى البردة بترابها وببقع الجاز الثقيلة، فلاحَ له ثمة
صندوق خشبي، استطاع أن ينزع بسهولة غطاءه المهترئ، كانت ترقد فيه
ملابس قديمة نظيفة ومطوية بعناية، خال أن هناك رجالا كثيرين حلموا
بالهانم فدفنتهم هنا في جوف الماكينة، تلك المقبرة التي تلقي فيها عشاقَها ،
تتصاعد أنفاسهم الملتهبة مِن هذا الصندوق، وثمة ملابس نظيفة ومعطرة
حلمت بعناق الهانم، ولقيت حتفَها في هذا الصندوق! "... " بمجرد ما أن ألقى يدَه في الصندوق خرج بجلباب أسود وطاقية ، سَلخ جلبابه الثمين عن جسدِه كما لو كان ثعبانا يغير جلده، ولكن لم يلحق ذلك الجلد الثمين أن يتطبع به جسده، كان عليه أن ينزعه في عجالة غير مسبوقة؛ ليعود لجلده القديم الذي كان عليه في بداية ذلك المساء. هو يعلم مقدار هذا الثوب الثمين الذي به تزوَّج الهانم، يجب أن يلقى عناية تليق به ، لذلك انتزعه بعناية وطواه برفق يشبه التقديس ومَدَّده في الصندوق، كما لو كانت تلك جثته الحية يهيل عليها التراب. إرتدى مِن أثواب الصندوق بعد محاولة جادة في مطاردة كتل التراب القديمة عنهم، لكن كان ثمة رائحة ثقيلة، هل هي رائحة التراب المحبوس بالداخل؟ أم رائحة أولئك الرجال 
الذين لقوا حتفهم هنا؟ شَعر بالإنهيار، تَقَاطر الرجال أمام عينيه خارجين من
الصندوق، عانقوه، بكَوا معا وانخرطوا في ضحكات هيستيرية. [ ) 15 . )
]... يدخل حجرة الماكينة وقد بدا كغراب ناحل عجوز، هناك تناول الكبريت
الرطب والمهترئ وبدأ فى إشعال لمبة الجاز رأسا أحمر ينفث من فمه شريطا
من الدخان. بدت الأشياء فى الغرفة كتلا سوداء تترنح مع اللهب الراقص ،
وبدأ طقوسه العتيقة للإحتفال بهذا اليوم- "يوم عُرسه"- "..." وضحت
الأشياء أمام عينيه، خطا نشوانا نحو الصندوق الذى أسماه صندوق
المنبوذين، هؤلاء الذين تم طرهم من الحياة لأنهم تطلَّعوا لأشياء ما كان لهم
أن يتطلعوا إليها، اقترب من الصندوق بحذر، حاول فتحه برفق، كان متعاطفا
مع كل الأجساد التى تقطنه، تناول ثوبه، ثوب العُرس، بدأ فى إعادة غطاء
الصندوق الذى أصدر ذلك الصرير الذى أزعجه، قال بتوتر وكأنه يخاطِب
شخصا حيا، "إشش إشش" بحرص بالغ مقاوما رعشة يديه وجسده، تشبث
بالجلباب الذى خاله يريد أن يهرب من بين أصابعه، لم يتركه ليفلت منه ،
استطاع أن يمسك به ويدفعه فى حضنه ويغمر وجهه فيه، اخترق مسامه
عطر سماوى جذب روحه وهزها هزا عنيفا، مايزال العطر قويا ممزوجا
بعطرها، تلك ثيابه فى يوم زفافه إلى الهانم... [ ) 16 . )
]تتملص الجدران من فلق النخيل التي تطبق عليها، السقف يطير وقد انبعثت
منه ضحكات مرحة، كل الأشياء طارت، أصبحت حرة، إلا أنا سجين الأرض
والذكريات . قالت جدتي لقد فتحت المرأة الصندوق الذي أهدي إليها في ليلة عُرسِها ، كان مكيدة مدبرة من أحد الآلهة، فتقاطرت من الصندوق كل الشرور، ولم يبق أمام الإنسان غير الأمل، الأمل ياجدتي.. لقد طوَّقتنا كل الشرور، أنا لا أتذكر أني فتحت في هذا اليوم، يوم عُرسي، أي صندوق، غير صندوق حذائي
الكارتون، تُرى هل كانت تختبيء فيه كل شرور العالم وبدأت بي إنتقاما؟
أصوات بداخلى تنادي علي وتمارس إغواءها لي أن أفتح لها أبوا ب الحنين
الموصَدة في قلبي، تمنحني ابتسامات، تلقي إلي بنبوءة لسعادة ما قادمة ،
كلما حاولت تجاهل هذا النداء وتلك الأصوات الملحة سمعت طرقا عنيفا
داخلي مثل )باندورا( . أستسلمِ لغوايتها وأفتح الصندوق، أجسادٌ تتحرك
نحوي ملفوفة بأغطية الليل السوداء، يصحبها صوت الماء، أنا وهم في
الليل، ليس لي أن أعرف هل هي ليلة مقمِرة أم مظلِمة تما ما تتخللها بعض
النجوم البعيدة . أوثِق مزلاج باب الماكينة، لا يوجد ثمة فتحات هنا غير تلك السنبلة المحفورة في الجدار، والتي تجلس بها لمبة الجاز منذ الأزل كشاهد عيان، تُرى ماذا شاهدت هنا؟ تكتل هبابها الأسود طبقات مرقت منه خطوط بارزة تسللت نحو السقف ،شكلت تلك الأدخنة رجالا سودا مثلي، تدافعوا محمومين نحو الهروب فاصطدموا بذلك السقف المنيع فتقهقروا، أفسحوا لبحار سوداء متعرجة على الجدار تندفع في ذلك المَجرى الأسود اللامتناهي. كظلال يسبحون في ذاكرتي
التي بدت خاوية إلا منهم مؤتنسين بالظلام... [ ) 17 . ) ]تحرص الهانم في وجوده على تكثيف الظلام، هنا لم يكن ثمة إضاءة غير نور الحَمام، تعوم في ذاكرته ذكرى ذلك اليوم الذي حاول أن يستدعي تفاصيله، عندما وضع قدميه داخل السرايا، كان أول ما شَعر به هو عطرها ، واصطدمت عيناه بتلك التماثيل الحية والتي تقف صامتة على حاملها، ثمة صرخة على شفاههم الوردية، شق طريقه فى البهو، هاله نظرة ذلك القط المصنوع من الجص، تلتهب عيناه بالشهوة، كانت الصالة واسعة تتخللها أكثر من استراحة، وثمة كرسي هزاز لهدهدة الهانم، وعلى
الجدار صورة بارزة لامرأة يغمرها حرير ناعم شفاف، ثمة متوددون يبدون
كما لو كانوا يحملونها على أكفهم المصنوعة من الورود التي صاغوا لها
منها مراجيح في حركة سرمدية متلاحقة تنتقل فى الفراغ، ثمة تماثيل كثيرة
هنا، معظمها من الرجال، يقفون محنَّطين، هكذا فى الصالة التى يغمرها
الضياء؛ الذى يخضع لسلطة الهانم. تناهت إلى أُذُنيه ضحكاتهم الساخرة ، بدت
له تلك المرأة كساحرة شريرة، كلما سقطت عيناها على رجل تحول إلى حجر،
بدت له أنها امتصت الحياة من تلك الأحجار التي كانت بشرا حقيقيا، الأحجار
بدت له سعيدة لأنها تحرره من سطوتها، الأحجار ترثي لحاله، خالها تردد
"متى يسقط عنك العقاب، وتستسلم للراحة بجوارنا؟". "..." انتظر النوبي
قليلا بالخارج محافظا على المشهد الذي يُعاد ويتكرر بنفس تلك الطقوس حتى
الحزن، وحارَ هل هو موجود هنا حقيقة؟ وهل في الحقيقة ما يحدث معه أم
حلم كابوسي؟ وكالمرات الفائتة ولج الحجرة، ألقى بجسده في الظلام، شعر
بدوار... حائرا دار الدورة نفسها حول السرير، لم يكن يرى شيئا، عطرها
كان هو الشيء الواقعي في هذا المكان الذي يطفو فوق الواقع طفوَ جثمان
غريق في بحر الليل، تُغرِق الظلام أنفاسُ عطرها، يبعث الظلام صدى تنهيدات
حارة في المكان، وشبح الهانم يطفو حوله، لا يرى غير عينيها الذئبتين
تحيطانه وهي تصرخ من اللذة، وهو يصرخ من الألم، تأخذ منه ما تريد هكذا
في الظلام، دون أن تجعله يراها، وعندما تنتهى يسمع تكة الباب التي لا
يستطيع أن يعثر لها على دلالة، هل إشارة إلى السعادة؟ أم إلى الإشمئزاز؟
تضرب الباب وقد تركتني جثة عارية تحدق فى السقف لذلك الشعور بالضآلة ،
أسمع صهيل تلك السلاسل الحديدي ة والجنازير وهي توصد أبواب القصر. [
( 18 . ) ثم تقول أم حياة: ]مش عارفه ياحياة، النعش اللى كانوا بيقولوا إنه فيه 
جسده كان فيه جسد النوبى بصحيح ، ولا كان فاضى!.[ ) 19 . )
يقول باشلار: ]فى الواقع، تنضج إنفعلاتنا فى العُزلة: الإنسان الإنفعالى يعد
انفجاراته وأفعاله فى هذه العزلة.[ ) 20 . )
هذا والعزلة مكان أيضا...
النوبى" يحيا فى عزلة" دائمة، يأتنس فيها بالماضى الدافئ؛ حيث الكينونة
المكتملة، لذا يرى "قصر الهانم" على النحو الذى أشرت إليه، كمكان مخيف،
يسلب منه كينونته ويحيله إلى "عَبد" ضمن عبيد آخرين، وكذلك حجرة
الماكينة المظلمة، مجرد سجن تحول فيه إلى "حيوان" منبوذ، تحت الطلب
الجنسى للهانم، ومن هنا كان الحريق حريقا للسجن ولل "صندوق" وللحيوان
معا .
الصندوق "خزَّانة أو دُرج" يحتفظ بأشياء من نوع ما أو على أسرار ، هى
علامات دالة على "الزمن الماضى"، ومع ذلك فهى تزيد كثيرا عن مجرد
أشياء لها تاريخ، إنها نحن فى عُمقنا المرئى .
يقول النوبى: ]"إفتح ياسمسم"، الصوت الذى كانت تُخرِجه جدتى من فمها ،
أو من أعماق بعيدة، لا أدرى، إنم ا كان يهزنى، يرجف قلبى وروحى ، يفتح
سمسم باب المغارة فأجد نفسى أندلق بداخلها، تجحظ عين جدتى وهى تطير
فى الغرفة، أسأل نفسى، هل تبحث عن الصناديق التى تخبئ فيها قصصها
وتطلقها فى الظلام دائما كأرواح باحثة عن أجساد تتحقق بداخلها. أم تخبئ
حكاياتها فى هذا الدولاب الخشبى ذى الضلفتين الذى يقف شاخصا؟...[ ) 21 )
. صناديق الجدة هى صناديق الحكايات والأحلام، أما صندوق الماكينة، فحين
ينفتح، نعيش معه تجربة "ذكرى يوم عُرسه"؛ هو الذى صار أحد المنبوذين
. أما الصندوق الأخير فهو "النعش" الحاوى لرفاته.
كم يبدو الأمر شبيها بلعبة الصناديق التى بداخل بعضها البعض، وهو ما يبدو
معه الصندوق الأخير- فى الرواية- اى "النعش"، كسخرية مُرَّة من الكنز
المختبئ فى الصندوق الأخير فى لعبة الصناديق... كأنما انتقال "النوبى" من
صندوق لآخر لم يكن سوى انتقالا من مرحلة لأخرى ليظفر فى النهاية
بالموت "بماهو النجاة من الحياة برمتها" ؟!؛ فإخفاء الكنز فى الصندوق
الأخير، كان يعنى إخفاء "المصير "؛ بما هو "السر"- أو "الثروة الكونية" ،
وهاهو قد عثر عليها أخيرا ؟! .
خاتمة :
ما أكثر النصوص الرمزية فى تلك الرواية، وكما رأينا، هى تصب فى "النص
الحكائى- الخاص بالنوبى" بقوة وعمق... وفى الحقيقة، هذه الرواية، من حيث البناء "وهو ما حاولت الكشف عن بعض من أبعاده"، غير تقليدية بالمرة، وتنطوى على "فرادة جمالية نادرة" .
*
الهوامش :
1  / "المعجم المسرحى- لحنان قصَّاب ومارى إلياس" ، ص 92 .
2  / "أسس ميتافيزيقا البلاغة"، عبد العزيز بوسمهولي، ، مجلة فكر
ونقد، العدد 25
3  / "قلب الافلاطونية" جيل دولوز، ت: عبد اليلام بنعبد العالى، مجلة فكر
ونقد ، العدد 31
4  / رواية "من ثقوب الليل ينحدرون"، ارجاء عبد الحكيم الفولى، الهيئة
المصرية العامة للكتاب، سلسلة "ابداعات قصصية" العدد 73 ، ط 1 ، 2023 ،
ص 144
5  / المرجع السابق، ص 87
6 - 7 - 8  / "الكلمات والأشياء" ميشيل فوكو، ت: "فريق من
المترجمين"، مركز الإنماء القومى، بيروت، ط 1، بلا تاريخ، الصفحات على
التوالى: 42 ، 48 ، 40
9  / الرواية، مرجع سابق، ص 7 ، 8 ، 9 ...
10 - 11 - 12 - 13 - 14  / "جماليات المكان" جاستون باشلار، ت: غالب
هلسا، وزارة الثقافة الأردنية، سلسلة مكتبة الأسرة الأردنية "القراءة
للجميع" ، 2020 ، الصفحات على التوالى: 39 ، 36 ، 37 ، 36 ، 36
15 - 16 – 17 – 18 – 19  / الرواية، مرجع سابق، الصفحات على
التوالى: 152 ، 153 / 185 ، 186 / 166 ، 167 / 175 ، 176 ، 177
20  باشلار، مرجع سابق ، ص 40
21  الرواية، مرجع سابق، ص 177

مساحة إعلانية