مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

الشاعر الدكتور مصطفي رجب يكتب:أستاذي الذي عثرت عليه بعد نصف قرن

2025-09-08 05:58:00 - 
الشاعر الدكتور مصطفي رجب يكتب:أستاذي الذي عثرت عليه بعد نصف قرن
أ. د. مصطفي رجب مع أستاذه د. أحمد شوقي رضوان

منذ كان هذا الرجل- د. أحمد شوقي رضوان - يشرح لنا الأدب الجاهلي [ قبل خمسين عاما = عام 1974 !!!!] بكلية التربية بأسيوط وأنا أحلم بأن أقابله ، 
أخيييييييييييييرا حقق الله لي حلمي وسعدت بتقبيل يديه
وجلسنا على مقهى فخم بالاسكندرية...
اللهم بارك في ذاكرته وفي صحته وفي عمره وفي ذريته ....
لم أر مثله فيمن علموني بالجامعة طوال سنوات دراستي ! 
من يرجع إلى مقالتي عنه على هذه الصفحة سيفهم كم كان هذا الرجل الرائع - وسيظل - عظيما !!

مقالي القديم عنه :
(هؤلاء علمونا) : الدكتور / أحمد شوقي رضوان

مصطفى رجب

حين التحقت بالسنة الأولى شعبة اللغة العربية بكلية التربية . جامعة أسيوط ، كنت أحفظ أكثر المعلقات السبع وأجزاء كثيرة من ألفية ابن مالك بحكم النشأة ( ففي البيت كتب ولا إخوة لي ولا أخوات ولا في البيت تليفزيون )
وكانت دفعتنا أول دفعة من نوعها في تاريخ التعليم الجامعي المصري تدرس اللغة العربية بكلية التربية .
فقبل ذلك التاريخ كان جميع معلمي اللغة العربية في مصر من خريجي الأزهر ودار العلوم وكليات الآداب ، لذلك كان كل أساتذتنا منتدبين من كليات جامعة الأزهر ، ومن كليات آداب متعددة ، ومن دراعمة تم تعيينهم بكليات الآداب ،
وكان الدكتور أحمد شوقي رضوان [ الذي درس لنا الأدب الجاهلي 1974] من آداب الاسكندرية عائدا من بعثة في بريطانيا حصل خلالها على درجتي دكتوراة إحداهما في الأدب العربي القديم والثانية في الأدب المقارن من جامعتي لندن ومانشستر . وكان سبب حصوله على الدكتوراة الثانية عجيبا ، فقد استعان في أثناء إعداده للدكتوراة الأولى بمقالة لأستاذ ألماني ، فسأله مشرفه البريطاني : أتعرف الألمانية ؟ قال : لا . استعنت بزميل ترجمها لي للانجليزية ، فخيَّره بين حذف ما استشهد به ، أو أن يتقن الألمانية ليقرأ المقالة في لغتها الأصلية ، فآثر أن يبحث عن عمل مسائي ليجد دخلا ينفق منه على تعلم الألمانية حتى أتقنها .!!
كان هذا أول درس تعلمته من هذا الرجل العظيم .
وكان الدرس الثاني أنه رفض أن يصطنع لنا " مذكرة " لمادة "أدب العصر الجاهلي ونصوصه " كما يفعل غيره ، وقرر علينا ثلاثة كتب ضخمة هي " في الأدب الجاهلي " لطه حسين و "العصر الجاهلي " لشوقي ضيف و " مصادر الشعر الجاهلي " لناصر الدين الأسد .. ومع الكتب الثلاثة شرح المعلقات السبع للزوزني . ثم ملزمة باللغة الانجليزية في بضع وعشرين صفحة عن " غِناء القيان في العصر الجاهلي "
وكان الدرس الثالث محرجا لي كل الإحراج ولكنني عشت متمثلا له حتى اليوم ، فذات مرة سألته : ما وجه رفع كلمتي ( أمام وخلف ) وهما ظرفان ؟ في قول لبيد :
فَغَدَتْ كلا الفَرجَينِ تَحْسَبُ أنَّهُ .... مَولى المخافة خلفُها وأمامُها
كنتُ قرويا ساذجا "غشيما" ، يحسب أن " الدكتور " لا يستعصي عليه أي سؤال ، فأطلقت سؤالي بكل براءة الريفي المتفائل وحماسته ، وفوجئت بالرجل الشامخ الوسيم المبهر يُقلِّب في شرحٍ للمعلقات أمامه غير كتاب الزوزني الذي نقتنيه ، وطال صمته حتى ران على المدرج كله جو من السكون المخيف ، وشعرتُ بحرج بالغ مازال يلاحقني حتى الآن وأنا أكتب هذه الواقعة .
ثم رفع ذلك الجبل الأشم وجهه ونظر لي في إشفاق مشبع ببسمة حانية وقال : يا ابني أنا تخصصي " أدب " ولا أعرف وجها للرفع ، سأسأل زملائي المتخصصين في النحو وأرد عليك في المحاضرة القادمة ...!!
ساعتها تمنيت لو انشقت الأرض وابتلعتني لأنني شعرتُ أنني خَفَضْتُ – عن جهل وتسرع - هامةً كنتُ أهواها مرتفعة أو هكذا خُيِّل إليّ !.
وجاء الرجل في الأسبوع التالي وبدأ محاضرته بأن شرح لي ما سألتُ عنه .
الدرس الرابع كان قاسيا أيضا ، فقد طلب منا أستاذنا بحثا حول قضية الانتحال وما أثير حولها ، فجاء زملاؤنا بالورقتين وبالثلاث وبالأربع ، وجئته ب"كشكول " من 60 ورقة وقدمته له بشموخ فلاحٍ معتز بنفسه "عبيط " قائلا : يا أستاذنا أنا ضد شوقي ضيف وناصر الأسد ومنحاز لرأي طه حسين !
وقد أضفتُ سبعَ حججٍ - من عندي! - للحجج الستّ اللواتي احتج بهن طه حسين على انتحال أكثر الشعر الجاهلي ، فتصفح الرجل الدفتر متبسما وأثنى عليه ووضعه في حقيبته ولم يُشعرني لحظة أنني مغرور!
في نهاية العام كان يتوجب على كل أستاذ أن يسلم الكلية درجة من (20) أعمال سنة لكل طالب ، فاختار شيخنا أحمد شوقي أن يمتحننا فيما أنهيناه من المعلقات فينادي الاسم من كشف الأسماء أمامه فيقف الطالب - أو الطالبة - فيأمره أن يقرأ بعض أبيات مما درسناه ، فيرفع زميلنا ما حقه النصب ، وينصب ما حقه الجر ، ويتخبط في قراءته تخبط أعمى يسير بين أشواك ، ويضطرب اضطراب صعيدي نزل لأول مرة من القطار في " باب الحديد " لا يدري كيف يخرج من المحطة ليرى الشارع !!
فما يكاد شيخنا يرده ثلاث مرات أو أربع حتى يقول له : (اقعد ..صفر من 20 )
ولم ينج من هذه المذبحة إلا ثلاثة فقط : أنا وزميلة عينت معيدة بعد ذلك معي بأسيوط وثالث كان يحفظ القرأن فكان لسانه مستقيما لكنه لم يكن من ذوي التقديرات بالجامعة فعين معلما . فقد حصل ثلاثتنا على 20 من 20
ثم قال لنا د. أحمد شوقي ( مادامت هذه .. حالكم فأنا أقرر أمامكم : لن آتي مرة ثانية لجامعة أسيوط . وأنصح الأولاد - يقصد الذكور - بالتحويل لمعهد فني تجاري ، وأنصح البنات بالتحويل لمعهد تمريض متوسط ) !
علمتُ فيما بعد أن هذا الرجل رفض التقدم للترقيات لما رآه من سوء حال لجان الترقيات وفضَّل العمل للأبد في الخليج ، ثم علمت أنه رجع منذ سنوات واستقر بالاسكندرية بلده الأثير . اللهم احفظ أستاذنا أحمد شوقي رضوان وأطل عمره . وليت أحدا من أصدقائنا السكندريين يكون قد سمع بهذا الرجل العظيم . ليبلغه عني تقبيلي يديه بعد نصف قرن من هذه الدروس وغيرها كثير لم أذكره

مساحة إعلانية