مساحة إعلانية
لم تعد الحروب اليوم كما كانت بالأمس. لم تعد المدافع تُدك الحصون ، ولا الدبابات تقتحم المدن ولا الطائرات تمطر السماء بالقنابل. المشهد تغير والساحات تبدلت والعدو لم يعد دائما على الحدود بل أحيانا يعيش في داخلنا… في عقولنا في هواتفنا ، في ما نقرأ وما نسمع وما نشاهد. إنها الحروب التي تُشن بلا مدافع لكنها قد تترك في النفوس والوعي أثرا أعمق من آثار الرصاص.
هذه الحروب الحديثة لا تُقاس فيها المسافة بالكيلومترات بل بعدد النقرات على الشاشات. لا تُقاس قوتها بحجم الجيوش بل بقدرة الرسائل الخفية على التسلل إلى العقول وتغيير القناعات. ومن هنا كانت أخطر من كل ما سبقها لأنها تُهاجم الإنسان في حصنه الأهم: وعيه وإرادته.
القوى التي تخوض هذه المعارك تدرك أن السيطرة على الأرض تبدأ أولًا بالسيطرة على الأفكار. فقبل أن تنكسر الجيوش على الجبهات ينكسر الأمل في القلوب وتترهل المعنويات وتضعف الثقة بالنفس. إنهم يعرفون أن الإنسان المهزوم داخليا لن يقاتل ولن يبني ولن يثق في مستقبله حتى لو كان يمتلك كل الإمكانيات المادية.
لكن الخبر السعيد أن هذه المعركة ليست قدرا محتوما. فالوعي يمكن أن يُحصّن كما تُحصَّن الحدود ويمكن أن يُبنى كما تُبنى القلاع. وتحصين الوعي يبدأ من إدراك أن المعركة موجودة أصلًا ، وأن ما يأتينا من رسائل ومعلومات ليس بريئًا بالضرورة بل قد يحمل أهدافا مدروسة بدقة.
القوة الحقيقية هنا ليست في المنع أو الحجب بل في التمكين. أن نملك قدرة على فرز المعلومة وتمييز الصحيح من المضلل والحق من الباطل. أن نقرأ ونسمع ونشاهد لكن بعين فاحصة وعقل ناقد وقلب لا تنطلي عليه الحيل. فالوعي الحي هو الذي لا يبتلع كل ما يُلقى أمامه بل يسأل: من قال؟ ولماذا قال؟ ولمن يخاطب؟
لقد أثبتت تجارب الأمم أن الشعوب التي تحافظ على وعيها لا تُهزم بسهولة. انظر كيف استطاعت دول صغيرة المساحة أن تواجه موجات من التضليل ، فقط لأنها غرسَت في مواطنيها ثقافة النقد والبحث عن المعلومة من مصادرها وعدم الانسياق وراء الشائعات.
وفي المقابل فإن الشعوب التي أهملت عقلها ورضيت بأن تكون متلقية فقط، وجدت نفسها أحيانا تخسر معاركها حتى قبل أن تبدأ. المعركة التي تُهزم فيها النفوس أولا ، لا تحتاج بعدها إلى رصاصة واحدة.
الوعي أيضا لا يزدهر في العزلة بل في التفاعل الصحي مع العالم. نحن لسنا بحاجة إلى أن نغلق أبوابنا بل أن نفتحها بعين يقظة. أن نتواصل مع العالم ونتعلم منه ، ونأخذ ما يفيدنا ونرفض ما يضرنا. هذه هي القوة الحقيقية التي تحمي الأمم من الانهيار الداخلي.
المعركة على الوعي ليست مهمة الحكومات وحدها بل هي مسؤولية كل فرد. الأب الذي يحاور أبناءه، والمعلم الذي يعلّم طلابه كيف يبحثون والإعلامي الذي يلتزم بالحقائق والمثقف الذي يكتب ليبني لا ليهدم… هؤلاء جميعًا جنود في الصف الأول من هذه الحرب.
وأجمل ما في هذه المعركة أن الانتصار فيها لا يحتاج إلى سلاح بل إلى إيمان صادق بقدرتنا على الفهم وقدرة على رؤية الصورة الكاملة وإرادة ترفض أن تنكسر أمام سيل الأكاذيب. الانتصار فيها ليس بالصوت الأعلى بل بالكلمة الأصدق ولا بعدد المتابعين بل بعمق التأثير في الناس.
إن الحروب بلا مدافع قد تخدع الكثيرين ، لكنها لا تهزم أمة تعرف من هي ، وتدرك قيمتها.وتؤمن بأن مستقبلها تصنعه بيديها. أمة تحمي عقلها كما تحمي حدودها وتدرك أن كل معركة على الأرض تبدأ أولًا في ساحة الوعي.
وفي النهاية، فإن النصر في هذه المعركة يبدأ حين نقرر ألا نكون مجرد أهداف سهلة على خريطة التضليل بل أن نصبح لاعبين فاعلين على رقعة الوعي. وحين نصل إلى تلك اللحظة، لن يستطيع أحد أن يهزمنا… لا قبل المعركة، ولا بعدها.