مساحة إعلانية
إن الحديث عن مصر وفضائلها لا ينتهي، فهو حديث ذو شجون، يرطّب القلب ويسلب العقل ويدعو للفخر، ليس خضوعًا للهوى أو إغراقًا في الإعتزاز بذلك الوطن، بل هي حقائق دامغة وشهادات من علماء التاريخ والآثار، وقد تفرّدت بعلم يحمل اسمها في سابقة لم تحدث لغيرها من بين الأمم، وقد تبارى علماء التاريخ والآثار والاجتماع في التأطير والتنظير له؛ حتى أصبح علم المصريات (أيجيبتولوجي) من العلوم الهامة في أرقى الجامعات العالمية، لكن أعظم وأجلّ شهادة لذلك البلد جاءت من السماء، وقد أوردنا في المقال السابق (المباركة في العهدين) حديث السماء عن مصر في الكتاب المقدس بعهديه القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل)، ونختم اليوم هذه السلسلة من المقالات بحديث السماء عن مصر في القرآن الكريم.
يقول أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في كتابه (فضائل مصر المحروسة): (لا يٌعلم بلد في أقطار الأرض، اثني الله عليه في القرآن بمثل هذا الثناء، ولا وصفه بمثل هذا الوصف، ولا شهد له بالكرم غير مصر).
فقد ورد ذكر مصر في القرآن الكريم في أكثر من (69) موضعًا، منها خمس بلفظ (مصر).
(وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا(. (يونس 87).
(وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ). (يوسف 99).
وفي أكثر من )64( موضع بذكر أماكن فيها مثل (سيناء، الطور، الوادي المقدس، البحر والأنهار والجبال) أو وصف لها مثل (المدينة، المدائن، جنات وعيون، الأرض). وذلك بخلاف ذكر ما كان على أرضها من سير وأحداث، وذكر من كان فيها من أنبياء وأتقياء وعباد الله الصالحين، وأيضًا من جبابرة وعصاة ومتكبرين.
ومن تلك الأماكن أرض سيناء المباركة، فقد وردت في القرآن مرتين.
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ). (المؤمنون 20).
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)). (التين 1، 2، 3)
وقد ورد في تفسير ابن كثير لسورة التين: (وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلًا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلى الله عليه وسلم.). فكانت أرض سيناء مباركة ومقدسة، ففيها الوادي المقدس، والشجرة والبقعة المباركة، وعلى جبلها تجلى رب العزّة وكلم سيدنا موسى تكليمًا، وفيها تلقى موسى الألواح وفرضت عليه الصلاة، ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى.
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ). (القصص 30).
(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى). (طه 12).
(وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا). (مريم 52).
ومن اللطائف في ذكر مصر في القرآن الكريم وصفها بالمدائن، وذلك لكثرة العمارة ومظاهر الحضارة فيها، فقد وردت كلمة (المدائن) في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع فقط، وجميعها جاءت في وصف مصر.
(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ). (الأعراف 111).
ومن اللطائف أيضًا كلمة (الصرح)، وهو البنيان العالي الذاهب في السماء مثل ناطحات السحاب، وهو البناء الفخم المعجز في تشييده مثل القصور الفاخرة، وقد ورد (الصرح) في القرآن الكريم في أربعة مواضع فقط، منها اثنتان في وصف ما شيدته الجن لسيدنا سليمان.
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ). (النمل 44).
واثنتان في وصف طلب فرعون من وزيره هامان، أن يشيد له صرحًا عاليًا يبلغ به السماء، في إشارة إلى تقدم مصر وإعجاز أهلها في البناء، وكأن أفعالهم لا يقدر عليها غير الجن؟؟
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ). (غافر 36).
ووصفها سيدنا يوسف عليه السلام بخزائن الأرض.
(قالَ اجعَلني عَلى خَزائِنِ الأَرضِ إِنّي حَفيظٌ عَليمٌ). (يوسف 55).
وكان فيها قارون الذي بلغ من الثراء ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ثم خسفت به وخزائنه الأرض، وكان ثالث ثلاثة متكبرين من أهل مصر ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
(وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ). (العنكبوت 39)
وكان من أهلها رجال أتقياء، كالرجل المؤمن الذي دافع عن سيدنا موسى في حضرة فرعون.
(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ). (غافر 28).
وكذلك سحرة فرعون الذين قال عنهم عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير: (كانوا من أول النهار سحرة كفرة، فصاروا من آخره شهداء بررة).
فقد اجتمعوا يوم الزينة لنصرة فرعون طمعًا في المكانة الاجتماعية والسياسية العالية والخير الوفير، وعندما ألقى سيدنا موسى عصاه أدركوا أنه ليس بسحر، وليس من علوم البشر التي ملكوا ناصيتها، بل هو فعل لا تأتيه قوة بشرية على وجه الأرض، فأيقنوا بصدق ما أتى به سيدنا موسى من رسالة سماوية وآيات ربّانية، فألقوا بأنفسهم سجدًا لرب العالمين.
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴿120﴾ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ). (الأعراف 120، 121).
فلم يخيفهم وعيد فرعون لهم بالعذاب الشديد، من قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم أجمعين، وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، أن سعيد بن جبير وعكرمة البربري والأوزعي وغيرهم قالوا في ذلك الموقف: (لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تتهيأ لهم وتتزخرف لقدومهم، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده لِما رأوا من المكرمات).
ومن نسائها أيضًا امرأة ضرب الله بها مثلًا للذين آمنوا وبشرها رب العزة ببيت في الجنة، هي زوجة فرعون أسية بنت مزاحم والتي وصفها الرسول الكريم بأكمل النساء.
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ). (التحريم 11). ومن الإشارات الحسنة لمصر في القرآن وصفها بالأرض، فذلك الوصف في النسق القرآني لبلد ما، يعبر عن بلوغ أهل ذلك البلد من القوة ما يجعلهم يظنون أنهم يتحكمون في الأرض، ولا يرون قوة أو حضارة تنافسهم فيها. وقد كانت مصر دولة قوية عصور طويلة، فكان ذلك مصدر فخر لفرعون، وكيف لا يكون له الفخر وهو يحكم مصر.
(وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ). (الزخرف 51).
وفي إشارة أخرى استخدام كلمتي (أرضكم ودينكم) في خطاب فرعون لأهل مصر؛ ليثيرهم على سيدنا موسى، دلالة على إرتباط أهل مصر الشديد بأرضهم ودينهم.
(يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ). (الأعراف 110).
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ). (غافر 26).
ومن اللطائف أيضًا، وصف القرآن الكريم لمصر بالجنة ذات العيون وبالمقام الكريم.
(فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58). (الشعراء 57، 58).
ووصفها أيضًا بالربوة ذات القرار والمعين.
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ). (المؤمنون 50).
والربوة هي المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات، يمر عليها الماء من أعلى، ولا يبقى فيها فيفسد الزرع، وقد اختلف المفسرون في مكان تلك الربوة، فقد قال ابن حاتم عن ابن عباس أنها في دمشق، وقال عبد الرازق في رواية لأبي هريرة أنها الرملة بفلسطين، وقال الضحاك وقتادة هي بيت المقدس، وقال ابن وهب وابن زيد وابن السائب أن مكان الربوة في تلك الآية هي مصر التي لجأت إليها العائلة المقدسة فرارًا من بطش هيردوس.
حفظ الله مصر أرض الكنانة، قبلة الأنبياء وسكن الأولياء، وحفظ أهلها الذين هم في رباط إلى يوم الدين.
•انتهت سلسلة مقالات (هوامش على دفتر المحروسة).

جبل موسي

شجرة العليقة