مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د.أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة (22)

2024-05-12 21:41:44 - 
د.أيمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة (22)
د.ايمن الداكر
منبر

رحلة العائلة المقدسة
 يقول القديس (يوحنا) الذهبي الفم: "تأمل أمرًا عجيبًا، فلسطين كانت تنتظره، ومصر استقبلته وأنقذته من الغدر".
كان بإمكان السيد المسيح اللجوء إلى بلدة أخرى قريبة له، لكنه أراد تقديس أرض مصر التي كانت رائدة العالم الأممي، وأن يقيم فيها مذبحًا له، فقد كانت مصر من قبل ملجًأ للأنبياء والسابقين مثل سيدنا إبراهيم الخليل، وكانت مقامًا لسيدنا يوسف والذي يعتبر رمزًا للسيد المسيح الذي جاء لإستبقاء الحياة، ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن إختيار أرض مصر لتكون ملجًأ للسيد المسيح: "إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشر، أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تتمثل بهما الأرض، فتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس، والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه".
وقد حدث أن (هيردوس) قد خشي على ملكه من ذلك الطفل المولود في بيت لحم، والذي بشّر به كهنة اليهود وأحبارهم، فأمر بذبح كل طفل يبلغ من العمر أقل من عامين، لكن أمر السماء جاء ليوسف النجار (خطيب السيدة مريم العذراء) أن يحمل المسيح وأمه إلى مصر.
(وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ* فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ) (متى 2-13، 14).
تحرك الركب المقدس من بيت لحم بفلسطين إلى مصر، السيدة مريم العذراء وابنها ويوسف النجار، وكان دخولهما أرض مصر من مدينة رفح، لتبدأ رحلة طويلة لمسافة 1033 كم تقريبًا حتى دير المحرق في مدينة أسيوط بصعيد مصر، رحلة متشعبة تمتد من العريش شرقًا حتى وادي النطرون غربًا، ومن البرلس شمالًا حتى أسيوط جنوبًا، لتحل بركة السيد المسيح على صفحة أرض مصر الممتدة، كما ورد في سفر إشعيا، (مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْر) (إشعيا 19- 25).
من رفح توجهت العائلة المقدسة إلى العريش ثم إلى الفرما (بورسعيد حاليا) وهي مدينة ذات أهمية كبرى في تاريخ مصر الفرعوني والقبطي والإسلامي، ومنها توجهوا إلى مدينة صغيرة بجوار (الزقازيق) تسمى (تل بسطا)، وقد شهدت تلك المدينة إحدى معجزات السيد المسيح، فقد تساقطت أصنامها، وشٌفيت ببركة المسيح زوجة (قلوم) ذلك المصري الذي إصطحب العائلة المقدسة إلى بيته.
لم يلبث الركب كثيرًا في تل بسطا لريبة أهلها من تساقط الأصنام، وتوجهوا جنوبًا نحو (مسطرد) والتي تبعد 10 كم عن القاهرة، وتسمى أيضًا (المَحمة) لأن السيدة العذراء أحَمّت السيد المسيح فيها وغسلت ملابسه، ثم توجهوا شمالًا مرة أخرى نحو (بلبيس) التابعة لمحافظة الشرقية حاليًا، ثم نحو الشمال الغربي إلى مدينة منية نجاح (منية سمنود حاليًا)، وعبروا منها النيل (فرع دمياط) إلى مدينة سمنود في الدلتا، فرح أهل سمنود بقدوم العائلة المقدسة وأحسنوا استقبالهم، وقد شاركت السيدة العذراء في إعداد الخبز لسيدة طيبة هناك، ويقال أن فيها (ماجور) من الجيرانيت عجنت فيه السيدة العذراء العجين، ويوجد بها بئر ماء تشرفت بمباركة السيد المسيح لها. 
غادر الركب مدينة سمنود نحو الشمال الغربي إلى منطقة البرلس، ونزلوا في قرية (شجرة التين)، لكنهم غادروها سريعًا إلى قرية (المطلع)، فاستقبلهم رجل طيب فيها وقدم لهم حاجتهم في فرح شديد، ثم رحلوا إلى (سخا) وقد أصابهم عطش شديد، فوضعت السيدة مريم ولدها على قاعدة عمود صلب هناك، فغاصت قدم السيد المسيح فيه وانطبع أثرها عليه، ونبع الماء من الحجر فشربوا وارتووا، وسميت تلك القرية قديمًا (بيخا أسوس) أي كعب يسوع. 
عبرت الأسرة المقدسة النيل (فرع رشيد) وأكملوا المسير نحو وادي النطرون (به أربعة أديرة كبيرة الآن (أبو مقار، الأنبا بيشوي، السريان، البراموس))، ثم غيروا مسارهم نحو الجنوب وعبروا فرع النيل إلى منطقة المطرية وعين شمس، وقد استظلت العائلة المقدسة بظل شجرة هناك ما زالت باقية حتى اليوم تسمى (شجرة مريم)، وهي الشجرة الوحيدة المتبقية من حدائق البلسم التي أنشأتها كليوباترا (65 – 30 ق.م)، وموضعها الحالي بجوار كنيسة السيدة العذراء بالمطرية، ويقال أن الشجرة الأصلية قد سقطت سنة (1656 م)، والشجرة الحالية هي نبت نما من الشجرة الأصلية سنة (1672 م)، ويوجد هناك أيضًا بئر مقدس شربت منه العائلة المقدسة وباركته.
واصلت العائلة المقدسة السير نحو منطقة مصر القديمة، والتي تحوي الآن العديد من الكنائس والأديرة نظرًا لأهميتها في ذلك المسار المقدس، وقد حدث أن الأوثان فيها قد تحطمت، فغضب حاكم المدينة وأراد البطش بالسيد المسيح؛ فلجأت العائلة المقدسة إلى مغارة توجد الآن داخل كنيسة القديس سرجيوس (كنيسة أبو سرجة)، وقد مكثوا في ذلك الكهف قرابة الثلاثة أشهر، ثم رحلوا إلى منطقة المعادي حاليًا، ونزلوا إلى شاطئ النيل على سلم حجري ما زال موجودًا إلى الآن في كنيسة العذراء، والتي تسمى بالمعدية، فمنها استقلت العائلة المقدسة مركب شراعي نحو صعيد مصر.
وصل الركب المقدس إلى مركز مغاغة بالمنيا، وفي قرية دير الجرنوس هناك يوجد بئر عميقة شربت منها العائلة المقدسة قبل مرورهم إلى (إباي أيسوس) وهي قرية (صندفا) أو البهنسا حاليا، ويوجد بها شجرة عتيقة تسمى شجرة مريم استظلت بها العائلة المقدسة، ثم توجهوا جنوبًا نحو (سمالوط) وعبروا نهر النيل إلى الشرق، ومكثوا هناك في مغارة في جبل الطير، وقد حدثت هناك معجزة طبع كف المسيح على الصخرة وهو يمنعها من السقوط في جبل الطير والذي يلقب أيضًا بجبل الكف، وتوجد هناك شجرة تسمى (شجرة العابد) والتي يقال إنها سجدت للسيد المسيح عند مروره بها.
عبرت العائلة المقدسة نهر النيل مرة أخرى نحو الغرب إلى قرية (الأشمونين)، ثم اتجهوا جنوبًا إلى (ديروط) ثم إلى قرية (قسقام) في القوصية، وقط سقط تمثال معبودهم وتحطم، فطاردهم أهل القرية فاتجهوا جنوبًا نحو قرية (ميرة) جنوب القوصية، فاكرمهم أهلها وفازوا ببركتهم، ثم ارتحلوا إلى جبل قسقام (12 كم من القوصية)، ومكثوا هناك ستة أشهر وعشرة أيام، وهي أطول مدة مكثتها العائلة المقدسة، وفيها دير المحرق حاليًا، وتعتبر تلك المغارة التي في سفح الجبل أول كنيسة في مصر والعالم كله، ويلقبها البعض ببيت لحم الثانية، وبها المذبح في نبوءة إشعيا. 
(فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا) (إش 19: 19).
وقد أصبحت تلك المغارة هيكلًا لكنيسة السيدة العذراء، ومذبحها هو الحجر الذي كان يجلس عليه السيد المسيح، واكتسبت أهميتها مرة أخرى من ظهور الملاك ليوسف النجار حاملًا أمر العودة. 
(إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ، قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ) (متى 19: 2)
شرعت العائلة المقدسة في طريق العودة بالاتجاه جنوبا نحو (درنكة) في جبل أسيوط، وهي أخر محطة لهم قبل ترتيبات العودة نحو الشمال، ثم توجهوا إلى مصر القديمة ثم المطرية ثم المحمة، ومنها إلى سيناء ليخرجوا منها إلى أرض فلسطين، بعد أن تباركت بهم أرض مصر ثلاث سنوات وأحد عشر شهرًا، وذلك ما ذكرته بردية تعود للقرن الرابع عشر ميلاديًا قد نشرتها جامعة كولون بألمانيا.
تحتفل الكنيسة القبطية في مصر في اليوم الأول من شهر يونيو (24 بشنس) بذكرى دخول العائلة المقدسة إلى أرض مصر، وقد تم تشييد الكنائس والأديرة المقدسة في تلك البقع التي شرفت بزيارة السيد المسيح لها، في أكثر من (25) موضعًا، وعلى امتداد (3500 كم) في رحلتي الذهاب والعودة من رفح حتى أسيوط. 
وقد جاء ذكر تلك الزيارة المقدسة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) سورة المؤمنون 50 
فقد قال بعض العلماء أن (الربوة) المذكورة هي الرملة بفلسطين، وقال آخرون إنها ربوة من ربا مصر فقد أوى إليها السيد المسيح صغيرًا برفقة أمه ويوسف النجار، ومصر هي ذات الربى ومائها المعين.

مساحة إعلانية