مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د.أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة (14) قبطية في بيت النبوة

2024-03-03 22:47:05 - 
د.أيمن الداكر يكتب: هوامش على دفتر المحروسة (14) قبطية في بيت النبوة
د.ايمن الداكر
منبر

عندما وصل حاطب بن أبي بلتعة إلى أرض مصر حاملًا رسالة الرسول محمد (ص) إلى المقوقس حاكم مصر وعظيم القبط، أحسن المقوقس ضيافته بعدما أعجب بفصاحته، ووصفه بأنه (حكيم جاء من عند حكيم)، واستضافه خمسة أيام، ثم أمر له بمائة دينار وخمسة أثواب، وأرسل معه برسالة إلى الرسول يقول فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعوا إليه، وقد علمت أن نبيًا بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة وهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك).
(وقد أورد تلك الرسالة ابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد، وابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في تميز الصحابة، وكتاب الطبقات الكبرى لابن سعد).
لم يعد حاطب إلى المدينة بتلك الكلمات فقط، بل كان يحمل معه هدايا عديدة من أرض مصر، ألف مثقال من الذهب وعشرين ثوبًا، ومكحلة ومربعة توضع فيها المكحلة، وقارورة دهن، ومقص ومسواك ومشط ومرآة، وبغلة شهباء تسمى (دلدل) وحمار أشهب يقال له (يعفور)، وفرسا يسمى (اللزاز)، وخصي أسود يسمى (مأبور)، وعسل طيب سأل عنه الرسول قائلًا: من أين هذا؟ فقيل له من قرية بمصر يقال لها (بنها)، فقال: (اللهم بارك في بنها وعسلها)، وقيل طبيبا قال له الرسول: (ارجع إلى أهلك، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع).
وحمل معه أيضًا قبطيتين من بنات مصر، هما مارية وسيرين ابنتي شمعون المصري، وهو أحد وجهاء الأقباط، وقد ولدتا في قرية (حفن) التابعة لمدينة (أنصتا) في صعيد مصر، وقد جاء إليها الصحابي عبادة ابن الصامت بعد الفتح الإسلامي لمصر، وبنى فيها مسجدًا وسميت باسمه، فهي حاليا قرية (الشيخ عبادة) التابعة لمركز ملوي بالمنيا، وقد عُفي أهلها من الخراج كرامة للسيدة مارية القبطية. وصل حاطب إلى المدينة في سنة 7 ه، وبصحبته القبطيتان، فوهب الرسول (سيرين) لشاعره حسان بن ثابت، فأنجبت ولده الشاعر والتابعي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت، واستبقى الرسول (مارية) لنفسه، وكانت بيضاء بهية الطلعة وذات جمال، وقد أهتم بها الرسول كثيرًا حتى أثار ذلك غيرة عائشة (أم المؤمنين) حتى قالت عنها: (ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة، فأعجب بها رسول الله، وكان انزلها أول ما قدم بها في بيت لحارث بن النعمان، فكانت جارتنا وكان عامة الليل والنهار عندها، حتى فرغنا لها فجزعت، فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا.) في العام التالي لقدومها إلى المدينة حملت مارية، ففرح بها الرسول كثيرًا خاصة أنه قد قارب الستين وفقد جميع أبنائه عدا السيدة فاطمة، وولدت مارية في ذي الحجة من العام الثامن للهجرة ولدًا جميلًا، سماه إبراهيم تيمنًا بجده إبراهيم عليه السلام، لكن المرض اشتد بالطفل في عامه الثاني، ومات في عمر العام ونصف، حزن الرسول عليه حزنًا شديدًا، وبكاه قائلًا: إن العين لتدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
وكان للسيدة مارية القبطية عند الرسول شأن كبير، فقد أحبها كثيرًا حتى أثار ذلك غيرة نسائه، ولم ينجب من زوجة غيرها بعد خديجة بنت خويلد عليها السلام، ونقلها من بيت (حارث بن النعمان) القريب من زوجاته إلى بستان قريب من بيوت المدينة يعرف اليوم باسم (مشربة أم إبراهيم)، وكانت السيدة فاطمة وزوجها علي يحبانها كثيرًا، وقد أكرم الرسول أهل مصر لمحبته لها قائلًا: (إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة وصهرًا)، فهم أصهاره وابنتهم أم ولده، وقد ذكر بعض العلماء أن الرسول إلتقى بمارية في حجرة حفصة في غيابها فواقعها، وغضبت حفصة لذلك وظنت أنه من هوانها عليه قائلة: "أي يا رسول الله، في بيتي وعلى فراشي"، فجعلها عليه حرامًا –يقصد مارية-، فقالت حفصة: يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال، فحلف ألا يصيبها، ونزلت فيها آيات سورة التحريم حتى قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم)، وقال بعض المفسرين أن ذلك في شربة عسل حرمها الرسول على نفسه، وقال آخرون أنه في مارية القبطية.
وكانت السيدة مارية تحب سيرة السيدة هاجر وتأنس لسماعها، فهي مثلها قبطية من أرض مصر، أهداها ملك مصر للسيدة (سارة) فمنحتها لزوجها سيدنا إبراهيم (أبو الأنبياء) عليه السلام، وأنجبت له ولده إسماعيل، وقد جاء بها من أرض مصر إلى مكة أم القرى؛ ليجيء من نسلها العرب، فكانت القبطية الأولى جدة الرسول (ص) وكانت القبطية الثانية أم ولده إبراهيم.  عاشت السيدة مارية القبطية بعد الرسول قرابة الخمس سنوات، وتوفيت في العام السادس عشر الهجري في عهد عمر بن الخطاب، ودفنت في البقيع إلى جوار نساء أهل البيت النبوي.

مساحة إعلانية