مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

منبر

الرأي الحر

د ايمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة نفيسة المصريين (18)

2024-03-31 11:54 PM - 
د ايمن الداكر يكتب : هوامش على دفتر المحروسة نفيسة المصريين (18)
د.ايمن الداكر
منبر

يا أهل مصر: (كنت قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى) 
تلك كلمات السيدة نفيسة التي أشعلت الحُمّى في قلوب أهل مصر، فتداعوا إلى السهر على عتبات بيتها الشريف، يرفضون رحيلها من بينهم بعد أن طابت لها قلوبهم محبة ومودة، وكانت السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعًا قد شدّت الرحال إلى مصر مع أسرتها سنة (193ه)، وخرج أهل مصر لاستقبالها بالفرح والزغاريد في مدينة العريش، حتى وصلت إلى القاهرة في 26 رمضان (193ه)، ونزلت في بيت كبير التجار جمال الدين بن عبد الله الجصاص، ثم انتقلت لدار سيدة مصرية تدعى أم هانئ، فأقبل عليها أهل مصر فرحين مرحبين، وراحوا يتردّدون على مجلسها كل صباح ومساء، يلتمسون منها العلم والبركة ويأنسون لزهرة من بستان آل البيت، حتى كادوا أن يشغلونها عن عبادتها، أشفقت السيدة نفيسة على مضيفيها لكثرة الزوار والمريدين، وعزمت على الرحيل من مصر والعودة إلى المدينة المنورة، وخرجت إلى الناس تخبرهم بذلك، فضجوا بالبكاء والعويل وفزعوا إلى حاكم مصر في حينها السري بن الحكم، فلم يخيب ظنهم وذهب إلى السيدة نفيسة يرجوها البقاء قائلًا: (يا ابنة بنت رسول الله، إني كفيل بإزالة ما تشتكين منه، أما عن ضيق المكان فإن لي دار واسعة بدرب السباع، وأُشهد الله أني وهبتها لكِ، وأسألك أن تقبليها مني، ولا تخجليني بالرد)، فقبلتها وفرح السري بذلك كثيرًا، ثم قال: (وأما عن الناس، فنتفق أن يكون لكِ معهم يومان، وبقية أيام الأسبوع لعباداتك)، فرضيت وأرضت أهل مصر ببركة بقائها بينهم.
ولدت السيدة نفيسة في مكة المكرمة سنة (145ه)، ثم انتقلت في الخامسة من عمرها إلى المدينة المنورة، وواظبت على دروس العلم في مسجد جدها الرسول، فلقبها شيوخ المسجد النبوي ب (نفيسة العلم) رغم صغر سنها، وتزوجت سنة (161ه) من إسحاق المؤتمن بن جعفر بن علي بن الحسين حفيد الرسول، ويقال أن أبيها الحسن قد رأى جده المصطفى (ص) في المنام يقول له : (زوّج نفيسة من إسحاق المؤتمن)، وكان إسحاق قد تقدم لخطبة نفيسة لكن أبوها لم يعطه جوابًا لطلبه، فتوجه إسحاق لقبر جده الرسول يشتكي له، وقال العلماء أن ذلك الزواج تم بأمر من رسول الله، وقد اجتمع بذلك في بيتهما نوران، نور جدها الإمام الحسن ونور جد زوجها الإمام الحسين.
عاشت السيدة نفيسة في مصر قرابة الخمسة عشر عامًا، أحبها المصريون حبًا شديدًا، فاطمأن قلبها للعيش بينهم ووهبتهم بركتها ومحبتها، وعندما فزعوا إليها من جور الحاكم (أحمد بن طولون) لم تردهم خائبين، وخرجت له ذات يوم عندما مر موكبه أمام بيتها، استوقفته فترجّل لها عن فرسه، وأعطته رسالة زجر كتبت فيها: (ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله مُتظًلمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون)، فخشع ابن طولون لقولها وعدل من بعدها. 
وعندما جاء الإمام الشافعي إلى مصر (199ه) كان يزورها في ذهابه إلى مسجد الفسطاط لدروس العلم وفي عودته، وقد أوصاها بالصلاة عليه والدعاء له عند وفاته، فأجابته ولبّت وصيته واستوقفت جنازته (204ه) عندما مرت أمام دارها لتصلي عليه.
وقد فاضت روحها الطاهرة في أرض مصر في رمضان (208ه)، فعزم زوجها إسحاق المؤتمن على حمل جثمانها إلى البقيع عند جدها الرسول، لكن أهل مصر وقفوا له وقد غلبهم الحزن على فراق (نفيسة المصريين) التي تحبهم ويحبونها، وباتوا ليلتهم على عتبات بيتها في كرب وغم وألم عظيم، وفي الصباح جاءت البشارة، بموافقته على دفن جثمانها الطاهر في أرض مصر، بعدما رأى جده الرسول في المنام يوصيه بترك نفيسة لأهل مصر، فإن البركات تتنزّل عليهم ببركتها. 
وما زال مقامها في بيتها في شارع الأشرف (درب السباع سابقًا) في حي الخليفة حاليًا قبلة لهم، يودونها وتطيب قلوبهم بحضرتها، ويحبون الصلاة في مسجدها القائم على رأس شارع آل البيت، والذ يقابله في نهاية الشارع مقام ومسجد عمتها السيدة زينب أخت الحسن والحسين، رضي الله عنهم جميعًا.

مساحة إعلانية