مساحة إعلانية
في الثالثة من عمرها تسقط الطفلة (دورثي لويز) على رأسها من أعلى الدرج، وتدخل في غيبوبة عميقة حتى ظن الطبيب الذي فحصها أنها قد ماتت، عَمَّ الحزن أفراد الأسرة وشرعوا في الإعداد لمراسم الدفن، لكن دورثي استيقظت فجأة وبصورة طبيعية وكأن شيئًا لم يكن، فعادت الفرحة الغامرة إلى البيت والأسرة، لكنها بهتت سريعًا، فدورثي تتحدث بلغة غريبة، وتصرخ في صحوها ونومها (أريد العودة إلى بيتي)، وراحت تتحدث بكلمات مبهمة، أي أنها قد أُصيبت بمتلازمة اللهجة أو اللغة الأجنبية (التحدث بلهجة مختلفة عن اللهجة أو اللغة الأصلية دون اكتساب مسبق لها من المكان الأصلي)، وفسر الطبيب ذلك بإصابتها في الرأس وسوف تعود إلى طبيعتها قريبًا، وراح الأب يطمئنها أنها في بيتها وبين أهلها، فتجيبه في حدّة (ليس بيتي)، وتجلس وحيدة حزينة وقد تملكتها الحيرة عن بيتها المجهول، ذلك البيت الذي تعرف وصفه جيدًا لكنها تجهل مكانه.
في العام التالي يصحبها والدها في رحلة إلى المتحف البريطاني، وفي القاعة المخصصة للآثار المصرية تفلت يدها من يده وتهرول نحو التماثيل الفرعونية، تقبلهم في فرح طفولي صارخة (وطني وأهلي)، وتقف مشدوهة أمام تمثال (سيتي الأول)، تتأمل في فرح صورة معبد أبيدوس إلى جوار التمثال في إطارها الزجاجي قائلة: هذا بيتي. ثم تبهت فرحتها وتسأل في حزن: أين الأشجار، أين الحدائق؟
قال الناس إنها غمغمة طفلة صغيرة ستزول قريبًا، لكن الغمغمة لم تتوقف، بل نمت وأصبحت حكايات غريبة وعجيبة عن ملك يُدعَى (سيتي الأول)، وعن معبد في مدينة تُسَمى (أبيدوس)، تفاصيل دقيقة تتحدث عنها دورثي وكأنها عاشت هناك سنوات طويلة، ذاعت تلك الحكايات العجيبة حتى سمع بها عالم الآثار الإنجليزي السير (واليس بادج) وعن شغفها بالآثار المصرية، وتبرع لتعليمها اللغة الهيروغليفية وهي في العاشرة من عمرها، فأدهشته بسرعة إجادتها لتلك اللغة الصعبة، وكانت تقول له: (أنا فقط أتذكر ما تعلمته من قبل.)
ولدت دورثي إيدي لويس في ضاحية بجنوب لندن (يناير 1904) لأبوين من أصل أيرلندي، وولد بداخلها يقين أنها من عالم آخر، من هناك حيث يأتيها الملك سيتي الأول في أحلامها، ويأمرها بالعودة إلى وطنها في أبيدوس، أصاب الخوف قلب والدتها فأرسلتها بعيدًا؛ لتتلقى التعاليم الدينية في الكنيسة عند جدتها في مقاطعة سوسيكس، لكن يقين دورثي لم يخفت بل تطور وتجاوز الوصف والحكايات إلى الجدال والمقارنة، تارة تحاول إثبات أن الديانة المصرية القديمة هي أصل الديانة المسيحية، وتارة تُطرَد من مدرسة البنات في دولويتش لرفضها غناء ترنيمة تدعو الله إلى لعنة الفراعنة، وتعدّدت نوبات استيقاظها من النوم صارخة باسم سيتي، تنتابها الكوابيس وتمشي وهي نائمة، وتتمتم بكلمات غير مفهومة، مما أدّى إلى دخولها المصحة النفسية عدّة مرات.
قرأت دورثي عن الحضارة الفرعونية كثيرًا في المكتبة العامة بإيستبورن، ودرست الفن الفرعوني القديم في مدرسة بلايموث للفنون، وقامت بأداء دور إيزيس في إحدى المسرحيات وغنت مرثية أوزوريس فيها، وبعدما انتقلت للعيش في لندن (1927) مع والديها وفي السابعة والعشرين من عمرها، التحقت بالعمل في مجلة العلاقات العامة المصرية التي تصدر في لندن، فكتبت المقالات ووجهت الرسومات الكاريكاتورية التي تدعم مصر سياسيًا حتى تنال استقلالها، ثم تعرفت على شاب مصري يدرس هناك يدعى إمام عبد المجيد، وتزوجته بعد ثلاثة سنوات (1931) وأنجبت ولدها الوحيد (سيتي).
رحلت دورثي في صحبة زوجها إلى مصر، وفي ميناء بورسعيد (1933) سجدت على الأرض تقبلها في سعادة، تتملكها نشوة العائد إلى وطنه بعد اغتراب طويل، سكنت في الجيزة في نزلة السمان، اسمتها أسرة زوجها (بلبل) وأطلقوا عليها لقب (أم سيتي). بدأت دورثي في الكتابة والرسم وممارسة طقوس تشبه الصلاة أمام الأهرامات، وتقديم عروضًا خاصة بالثعابين تشبه السحر، قدمت ذلك العرض أمام هرم (أوناس) وقد حملت حذائها قبل دخولها الهرم، ذاع صيتها حتى عُرفَت في أوساط الطبقة الراقية البعيدة عن طبقة زوجها المتوسطة، وفي سنة (1935) رفضت مرافقة زوجها إمام عبد المجيد إلى العراق، بعدما تحصّل على عقد عمل للتدريس هناك ووقع بينهما الطلاق، فلم تكن لديها رغبة في مغادرة أرض مصر مرة أخرى.
أُعجب بها الأثري المصري الكبير الدكتور سليم حسن وضمها إلى فريقه كدورتسومان، وشاركت برسوماتها في موسعته الشهيرة (مصر القديمة)، ثم انتقلت للعمل مع فريق الدكتور أحمد فخري في حفريات دهشور، وقد تمت الإشارة إليها في كتاب (الحفريات في الجيزة) والذي يشمل اثنى عشر مجلدًا بكلمة (مع خالص الامتنان إلى دورثي إيدي لتحريرها ورسمها وفهرستها وتصحيحها).
وكانت العلاقة بينها وبين علماء الأثار أقرب إلى المنفعة المتبادلة، فقد أفادتهم كثيرًا بخبراتها الواسعة في اللغة الهيروغليفية والرسم والفن المصري القديم، وتعلمت منهم مهارات وتقنيات علوم الأثار والحفر والتنقيب، واكتسبت خبرات ومعلومات غزيرة عن الحضارة المصرية القديمة وتاريخها.
لم تفقد دورثي احترام ومحبة الناس في نزلة السمان، ولم تثير غضبهم بصلاتها وعروضها المتكررة لآلهة مصر القديمة، وقضائها عدّة ليالي في الهرم الأكبر أو أمام أبو الهول تقدم صلاة الليل لحورس، فقد احترموا صدقها وإيمانها الحقيقي بآلهة أجدادهم المصريين القدماء، وكانت هي تحترم الشعائر الدينية واحتفالات المصريين في أعيادهم المقدسة مسلمين ومسيحيين.
أصبحت دورثي لويس عاطلة في سنة (1956) بعدما انتهى مشروع أبحاث الهرم في دهشور، وعرض عليها الدكتور أحمد فخري العمل بأجر جيد في مكتب القاهرة للسجلات، أو أجر زهيد للعمل (دورتسومان) في أبيدوس، فأختارت الرحيل إلى أبيدوس، قائلة: (إن سيتي قد وافق على ذلك).
يتبع في المقال القادم.....