مساحة إعلانية
تحدثت (دورثي لويس) في عقدها الثاني من العمر عن رؤيتها للكاهن (حور_ رع)، والذي تعدّدت زياراته لها في أحلامها؛ ليقص عليها حكاية فتاة صغيرة تدعى (بنترشيت)، تلك الفتاة التي عاشت في عهد الملك سيتي الأول (1290 – 1279 ق.م)، وتنحدر أصولها من أسرة فقيرة، فوالدها يعمل في سلك الجندية ووالدتها بائعة خضار، ماتت الأم في صغرها وعجز الأب عن رعاية ابنته الصغيرة، فتقدم بها إلى معبد أبيدوس لتكون في خدمة الآلهة، ظلت الفتاة في المعبد حتى بلغت مبلغ النساء، فسألها الكاهن عن رغبتها في الخروج إلى الزواج والحياة الطبيعية في الخارج، أو البقاء لحياة الكهانة والعذرية داخل المعبد، فاختارت البقاء، وأخذت على نفسها العهود لتصبح كاهنة من كاهنات المعبد، كاهنة فائقة الجمال افتتن بها الملك سيتي الأول، وقعت عليها عيناه في إحدى زياراته للمعبد ووقع في قلبه حبها، فاتخذها عشيقة له، وأخبرها (حور_رع) أنهما تناولا (أوزة غير مطبوخة)، وهو تعبير مصري قديم عن العلاقات المحرمة، دارت ليالي الحب بين الكاهنة الصغيرة والملك حتى أصابها حمل، خطيئة كبرى لا تغتفر وذنب عظيم، لكن العاشقة الصغيرة تحملت وزرها وحدها، كتمت سرها خوفًا على ملكها وحبيبها من فضيحة العلاقة الغير شرعية بإحدى كاهنات المعبد، ولشدّة حبها له تضحي بروحها من أجله وتنتحر. لكن روحها عادت إلى الحياة مرة أخرى بعد ثلاثة آلاف عام، لتعود بنترشيت في جسد طفلة بريطانية صغيرة اسمها دورثي.
في مارس (1956) خضعت دورثي لنداء روحها المتعطشة لبيتها وحلمها القديم، رحلت إلى قرية العرابة المدفونة في مدينة البلينا بسوهاج، وأمام معبد أبيدوس وقفت تتأمله حقيقة ماثلة بين يديها، وليست صورة في إطار زجاجي، وقفت الطفلة التي بلغت اثنتي وخمسين عاما تردد كلمتها في فرح قائلة: (هذا بيتي).
لم يصدقها أحد مرة أخرى، لكن الطفلة كبرت وما عادت في حاجة لتصديقهم، امتلكت الحجة وما عادت كلماتها مجرد غمغمة مبهمة، كانت سيرتها قد سبقتها إلى هناك، فقام الأثريون في العرابة باستقبالها باختبار مفاجئ، وطلبوا منها تحديد لوحات جدارية خاصة في ظلمة داكنة، على أساس معرفتها السابقة بمعبد أبيدوس كما تدعي، ولم تكن تلك اللوحات قد تم الإعلان عنها من قبل، فأرشدتهم إليها وترجمتها لهم في مهارة فائقة، لكنهم اكتفوا فقط بالدهشة ولقبوها بالسيدة غريبة الأطوار. تسلمت دورثي لويس عملها (دورتسومان) في معبد أبيدوس، وتحقق حلم طفولتها ورجاءها لأبيها عندما قالت: أريد العودة إلى بيتي.
أحبت دورثي العيش في العرابة وأحبت التجوال في حواريها، ترصد عادات أهلها وتربطها بما عاشته في حياتها السابقة، لكن جمالها اكسبها عداوة النساء هناك، فقد خشين على رجالهن من سحرها وحيويتها، ورجمها بعضهن بالحجارة كي ترحل عن قريتهن، وقد جهلن أن من عشقها الملك سيتي الأول كيف لها أن ترى رجالهن؟! أشفقت عليها إحدى العائلات الكبيرة هناك، ومنحتها طفلًا يرافقها في جولاتها ويحرسها، وفي بيت فقير من الطوب اللبن بجوار المعبد عاشت دورثي حياتها الجديدة، تزور معبد أبيدوس حافية القدمين كل صباح، تؤدي طقوسها اليومية وتقيم صلواتها، خاصة في أعياد إيزيس وأوزوريس، وقد استطاعت سنة (1975) أن تضع جدولًا طقوسيًا لأيام العيد حسب ما نصت عليه النصوص المصرية القديمة. أخلصت دورثي لعملها في أبيدوس ولبيتها القديم حتى بلغت الستين وأحالوها للتقاعد سنة (1964)، فذهبت إلى القاهرة، لكنها لم تستطع أن تمكث هناك أكثر من ليلة واحدة، وعادت فرحة إلي بيتها القديم في أبيدوس؛ بعدما تمكنت من الحصول على استثناء من إدارة الآثار، لمواصلة عملها في معبد أبيدوس لخمس سنوات أخرى حتى سنة (1969)، فأصابها التقاعد الإجباري مرة أخرى، لكنها لم تغادر أبيدوس ولم تكف عن زيارة المعبد وإرشاد الزائرين له.
وكانت دورثي قد مكثت عامين في بداية عملها في أبيدوس على ترجمة قطع من قصر معبد مكتشف حديثًا هناك، وسُجلَت أعمالها في دراسة إدورد غزولي بعنوان (القصر والمجلات المرفقة بمعبد سيتي الأول في أبيدوس)، وقدم لها إدورد الشكر والإعجاب بمهاراتها في ترجمة النصوص الغامضة.
وقامت بكتابة عدة مقالات (1960 إلى 1975) أصّلت فيها العادات التراثية والشعبية لسكان العرابة، وربطتها بأصولها في تاريخ مصر القديم مثل ألعاب الأطفال وعادات الختان ومراسم الموت والأحزان، وقد أعادت عالمة المصريات (نيقولا هانسن) نشر هذه المقالات مرة أخري في (2008) تحت عنوان (حياة أم سيتي في مصر). كتبت دورثي مذكراتها سنة (1972)، وفي سنة (1981) أصدرت كتابها (أبيدوس المدينة المقدسة)، وقد اهتمت بها الصحف والمجلات المحلية والعالمية، وكان بيتها قبلة العديد من علماء الآثار والقنوات الفضائية وصنّاع الأفلام التسجيلية. خمسة وعشرون عامًا قضتها دورثي في العرابة، تتملكها روح الكاهنة الصغيرة (بنترشيت)، تمارس طقوسها الفرعونية في محبة وحماسة، وتستخدم ماء الأزوريين -النابع خلف المعبد- في التداوي والبركة، تتجول في حواري العرابة وتقول أن (حور- رع) يرافقها ويرشدها في جولاتها، وقد قص عليها حكاياتها القديمة على مدى عام كامل، تتذكر دورثي تلك الحكايات فتكتشف حديقة المعبد القديمة، وتساهم في ترميم أجزاءه المهدمة، تتذكر مقبرة أوزوريس لكنها لا تفصح عن مكانها لجلالها وقدسيتها في نفسها، وتتذكر مقبرة نفرتيتي ولا تفصح عنها لكراهية الملك سيتي الأول لأخناتون وفعله بديانة الأجداد، يلحون عليها فتقول: (إننا لا نريد أن نعرف شيئًا آخر عن هذه العائلة).
دورثي لويس حكاية عجيبة عصية على التصديق، تتجاوز حكايات تناسخ الأرواح الغير مقبولة دينيًا وفكريًا في بلادنا، لا شك أنها حالة عشق نادر للحضارة المصرية العظيمة، عشق يجعلها تُخلص للأمكنة بعد رحيل أصحابها، أن تتخلى عن رغد العيش وحياة الرفاهية مع أسرتها في لندن، لتعيش وحيدة في بيت متواضع في قرية في صعيد مصر.
دورثي لويس سؤال حائر عن كونها مريضة يلزمها علاج نفسي، أم هي عالمة آثار تستحق التكريم والإشادة؟ أم هي روح فرعونية هائمة عادت إلى موطنها بعد إغتراب طويل. ماتت (دورثي إيدي لويز) في أبريل (1981) في أبيدوس، ودفنت في مقبرة بعيدة عن مقابر المسلمين والمسيحيين، لتكون بين أهلها في تلك الحياة التي شهدت عشقها للملك سيتي الأول.