مساحة إعلانية
أصابت الشيخ عبد الرحيم البرعي من أعلام الصوفية بالسودان وعكة صحية شديدة، ونصحه الأطباء بالرحيل إلى مصر طلبًا للعلاج هناك، وبعد الفحوصات قرر الأطباء إجراء عملية جراحية عاجلة له، قضى الشيخ عبد الرحيم ليلته يصلي ويتعبّد ويتوسّل بأهل الفضل، وسكان مصر من آل البيت وأولياء الله الصالحين، وفي الصباح كانت المعجزة، فقد زال المرض واختفت آثاره ولم يعد الشيخ في حاجة إلى الجراحة والعلاج، وعندما عاد إلى السودان أنشد قصيدته الصوفية الرائعة (مصر المُؤَمّنَة)، أي المحروسة ببركة آل البيت والأولياء الصالحين، يقول فيها:
يا صاح هِمًنا لزيارة اُمنا.
مصر المُؤَمًنَه بأهل الله.
لا تجهـل أمرهـم فــي مـصـر مقـرهـم.
هـم أهــل البـيـت الـواضـح سِـرَّهـم.
ولقد كانت مصر منذ قديم الأزل قبلة للأنبياء، إدريس عليه السلام وأبو الأنبياء إبراهيم الخليل، يوسف ويعقوب والأسباط، موسى وهارون والخضر ويوشع بن نون، وسيدنا عيسى عليهم جميعًا السلام، وكانت مأوى لآل البيت وملاذًا آمنًا لهم في ساعات الشدّة والعُسرة، وكذلك الصحابة والتابعين والعارفين بالله، تشرفت بخطواتهم المباركة على أرضها، واحتوت أجسادهم الطاهرة في جوفها.
وكما يوجد البقيع في المدينة المنورة، والذي يحوى رفات أكثر من عشرة آلاف صحابي، وبعض من نساء النبي وآل البيت وغيرهم من التابعين واللاحقين، يوجد في أـرض مصر (بقيع) ثاني في حالة فريدة لم تتكرر في مكان آخر غير بقيع المدينة المنورة، ففي قرية (البهنسا) التابعة لمركز بني مزار بالمنيا توجد الجبّانة التي تضم رفات أكثر من خمسة آلاف شهيد من الصحابة والتابعين، وذكر الواقدي أن البهنسا جاءتها عشرة آلاف عين رأت النبي محمد منهم سبعون ممن حضروا غزوة بدر.
وللبهنسا تاريخ عظيم منذ عهد الفراعنة، فقد كانت عاصمة الإقليم التاسع عشر من أقاليم الصعيد، وكان اسمها (برمزت أو برمجيد) أي الصولجانات الذهبية، ولها حضور قوي في أسطورة إيزيس وأوزوريس، فقد شهدت معركة حامية الوطيس بين حورس وست، والتي فقد فيها ست ساقه، ويتواجد فيها السمك المقدس الذي التهم العضو الذكرى لأوزوريس، وفي عهد رمسيس الثالث أصبحت مركزًا لعبادة الإله (ست) إله البرق والعواصف والشر، فهو حامي الإقليم ويوم ميلاده يوم عيد لهم.
وفي العهد اليوناني سميت باسم (أوكسيرنخوس) نسبة إلى ذلك السمك المقدس الذي أوردناه سابقًا ذو الفم المدبب الطويل، ولكونها مدينة عريقة ذات حضارة ومباني عظيمة أطلقوا اسمها على الإقليم كله، وورد ذكرها في أعمال سترابون وبليني وكلوديس بطليموس.
وفي رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، كانت البهنسا إحدى محطات تلك الرحلة العظيمة، ويوجد بها حاليًا شجرة مريم التي استظلت بها السيدة مريم والمسيح عليهما السلام ويوسف النجار، وبئر شربوا منه، واسمها في اللغة القبطية (بمجة).
واستمرت مكانتها في العهد الروماني، وتعاظمت لتصبح حامية رومانية قوية، وثاني أكبر مدنهم في مصر بعد الإسكندرية، ويقال أن حاكمًا رومانيًا يدعى (البطليموس) كانت له فتاة باهرة الحسن والجمال، وقد أطلقوا عليها لقب (بهاء النساء) وسميت المدينة باسمها (بهنسا)، وكانت المدينة تحتوي على قصور وكنائس ومعابد فخمة، ومسرح روماني كبير، وذات أسوار عالية وحصينة تحميها حامية رومانية قوية، وعندما أرسل إليها عمرو بن العاص جيشًا بقيادة قيس بن الحارس المرادي، استعصت عليه بحصونها وقلاعها المنيعة، فارسل له مددًا من ثلاثمائة فارس بقيادة عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بالمقداد بن الأسود وضرار بن الأزور على رأس مائتي فارس، ثم عبد الله بن عمر ثم عقبة بن عامر الجهني كل منهما على رأس مائتي فارس. وبعد حصار دام أكثر من أربعة أشهر ومحاولات اقتحامها العديدة، تم له فتح البهنسا في سنة (22 ه)، وقد استشهد على أسوارها آلاف الصحابة والتابعين، وتم دفنهم جميعًا فيها، وأطلق عليها العرب اسم (بهسة) نسبة إلى اسمها القبطي (بمجة) باستبدال حرفي (ه، س) بحرفي (م، ج)، ثم أصبحت بهنسا، وقد ازدهرت في العصر الإسلامي وتميزت بانتاج الملابس المطرزة الفاخرة، والنسيج الموشى بالذهب. ويظن بعض المؤرخين أنها كانت مقر سيدنا يوسف قديماً؛ لوقوعها على الشاطئ الغربي للممر الذي يحمل الماء من النيل إلى الفيوم والمسمى ببحر يوسف.
وتعتبر البهنسا حاليًا مزارًا سياحيًا كبيرًا، يقصدها المسلمون والمسيحيون للتبرك بها وإقامة الموالد وحلقات الذكر، ففيها شجرة مريم العتيقة، وخمسة عشر قبة أثرية منها قبة البدريين، التي تحوي رفات أحد عشر صحابيًا ممن شهدوا غزوة بدر، وقبة الحسن الصالح بن زين العابدين بن الحسين حفيد الرسول، وقبة الأمير زياد بن سفيان، وقبة خولة بنت الأزور، وقبة على الجمام قاضي قضاة البهنسا، وفيها مقام السبع بنات وهن مجاهدات استشهدن في فتح البهنسا، وقبة محمد بن أبي بكر، وقبة محمد بن عقبة بن عامر الجهني، وغيرهم الكثير من الصحابة والتابعين حتى سميت بقرية الشهداء وسميت أيضًا (البقيع الثاني). وما زال يقطنها بعض العائلات التي تنحدر من أصول الصحابة والتابعين مثل قبيلتي غفار والزبير.
يعتقد البعض أن في البهنسا مواضع يُسْتَجاب فيها الدعاء، مثل عند مجرى الحصى مجرى السيل، لكثرة الشهداء هناك، وعند مشهد الحسن الصالح حفيد الحسين، ويقول عنها على بن الحسن رضى الله عنه:
(ليس بأرض مصر بالوجه القبلي أرض مباركة ولا أكثر بركة من أرض البهنسا)
